كيف تحولت الصين إلى الشريك التجاري الأول للعرب؟ (تحليل)
إسطنبول-اقتصاد تركيا
قبل عقود لم تكن الصين بالنسبة للدول العربية سوى بلد شيوعي في أقصى آسيا يكافح لإطعام أكثر من مليار نسمة، لكن بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991، برزت هذه الدولة كإحدى النمور الآسيوية الصاعدة اقتصاديا.
وبحلول القرن الواحد والعشرين، سجلت الصين أكبر نسب النمو الاقتصادي في العالم، وتحولت خلال أعوام فقط إلى شريك تجاري رئيسي لأغلب الدول العربية، وأزاحت من الريادة الولايات المتحدة ودولا أوروبية كانت مهيمنة تاريخيا على اقتصادات هذه الدول.
هذا التوغل الصامت للصين في العالم العربي من البوابة الاقتصادية أزعج كثيرا من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، التي لطالما تعاملت مع الأسواق العربية كمناطق نفوذ خاصة بها.
التحول الصيني العظيم
العملاق الصيني الحالي لم يكن في النصف الأول من القرن العشرين سوى بلد منهك بالأزمات، حيث واجهت الغزو الياباني (1937 - 1945)، ثم دخلت في حرب أهلية بين القوميين والشيوعيين (1945- 1949).
وعاشت البلاد بين 1958 و1962 إحدى أسوأ المجاعات التي عرفتها البشرية في تاريخها راح ضحيتها بين 20 و43 مليون نسمة بحسب تقديرات باحثين، ووصل الأمر وفق بعض الروايات إلى أن أكل الناس كل ما يدب على الأرض من كلاب وقطط وحتى حشرات وأمور أخرى، وهذا ما يفسر غرابة المطبخ الصيني إلى اليوم.
كانت الصين تعيش أحلك أيامها وهي تحاول تحقيق قفزتها الكبرى والخروج من مستنقع الحروب والمجاعات لكنها وجدت محاصرة من الولايات المتحدة وحلفائها الداعمين للقوميين الصينيين المتحصنين بجزيرة تايوان، كما أن خلافاتها مع الاتحاد السوفييتي أفقدها حليفا قويا، ولم تستعد بكين مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي من القوميين إلا في 1971.
لكن الصين وقعت مجددا في مستنقع الحروب، عندما شنت هجوما على فيتنام في 1979، ردا على غزوها كمبوديا في 1978، ولم تتمكن من تحقيق نصر حاسم، لكنها استنزفت اقتصاديا، رغم أن الحرب لم تدم سوى شهر واحد.
كان درسا قاسيا للصين، فالحروب حتى مع الدول الأقل شأنا، من شأنها أن تسقط أنظمة وتعرقل النمو الاقتصادي للبلاد، وتجلى ذلك في الغزو السوفييتي لأفغانستان (1979-1989) والذي انتهى بتفككه بعد عامين من انتهاء الحرب.
تعلمت الصين سريعا من الدرس، وخرجت من حرب فيتنام بسرعة، على عكس الاتحاد السوفييتي، وكرست جهدها على تطوير اقتصادها المنهك.
وتبنت الصين سياسة "الإصلاح والانفتاح" الاقتصادي منذ 1978، وبعض التقارير تعتبر عام 1981 محوريا في بداية تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بأرقام كبيرة، وحقق اقتصادها قفزات استثنائية في نسب النمو، بلغت 15.2 بالمئة في 1984، بحسب وكالة شينخوا الصينية.
فترة الثمانينات كانت بمثابة ميلاد حقيقي للنمر الصيني وتحول كبير في اقتصاده الذي كان يعتمد على تصدير مواد أولية مثل النفط، إلى مصنع للعالم يستهلك كميات هائلة من الطاقة، ويصدر مواد مصنعة ونصف مصنعة.
نجح النظام الشيوعي الصيني في تبني اقتصاد ليبرالي منفتح على الخارج، في مفارقة عجيبة، سمحت باستقطاب كبريات الشركات العالمية بما فيها الأمريكية، نظرا لضخامة السوق (أكثر من مليار نسمة)، ورخص الأيدي العاملة وكفاءتها.
واتبعت الصين سياسة الإحلال مكان الواردات، ومنصة التصدير، ثم التقليد الصناعي ما خلق لها فيما بعد مشاكل مع حقوق الملكية الصناعية، وتخفيض الأسعار لاختراق الأسواق الخاضعة للهيمنة الغربية في آسيا ثم إفريقيا بل في أوروبا وأمريكا الشمالية.
الغزو الصيني للأسواق العربية
تحول الصين من بلد يعتمد في تجارته الخارجية على تصدير المواد الزراعية والمواد الخام والموارد الطبيعية، إلى بلد مصنّع ترتكز صناعاته على تصدير المنتجات الكهربائية والالكترونية وخاصة الهواتف والكمبيوترات وغيرها كان له أثر في تطوير المبادلات التجارية مع الدول العربية.
وبعدما كان الاقتصاد الصيني منافسا للاقتصاديات العربية أصبح متكاملا معها، فأغلب صادرات الدول العربية من النفط والغاز والمعادن مثل الحديد والفوسفات والمنتجات الزراعية.
في حين كانت الاقتصادات العربية متعطشة للمنتجات الصينية خاصة الصناعية منها والالكترونية، ليس لجودتها وإنما لسعرها المعقول الذي يناسب قدرات الطبقات الوسطى في العالم العربي.
وعبر تخفيض الأسعار ولو بتقليص جودة المنتجات، والعمالة الرخيصة والمؤهلة، تمكنت الصين من اختراق الأسواق العربية التي كانت إلى وقت قريب حكرا على شركات أمريكية وأوروبية معروفة بأسعارها المرتفعة.
النمو السريع وتطور الصناعة التحويلية، جعلت السوق الصينية شرهة للطاقة والمواد الخام، إلى درجة أن أصبحت أكبر مستهلك للنفط في العالم بأكثر من 10 ملايين برميل يوميا، جزء كبير منه يتم استيراده من الدول العربية، وعلى رأسها السعودية أكبر مصدر للنفط إلى السوق الصينية، وبلغت الصادرات النفطية العربية للصين في 2018 نحو 107.7 مليارات دولار.
وتصاعد حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية بشكل مضاعف، حيث بلغ 224.3 مليار دولار في 2018، بينما لم يتجاوز 36.7 مليار دولار في 2004، بحسب قمة الأعمال الصينية العربية.
وبلغت التجارة الخارجية للصين مع العالم 6 آلاف مليار دولار في 2021، وهذا الرقم الضخم جعل بكين الشريك التجاري الأول لـ120 دولة حول العالم، بما فيها غالبية الدول العربية.
ومع بداية استغلال النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة، خاصة منذ عام 2008، وبكميات كبيرة، تقلصت حاجة واشنطن للنفط والغاز العربي.
بل إن الولايات المتحدة التي كانت أكبر مستورد للغاز الجزائري، أصبحت مصدرة له، وبسرعة صعدت الصين إلى مرتبة الشريك التجاري الأول للجزائر، متجاوزة واشنطن وروما وباريس.
وكذلك الأمر بالنسبة للنفط، وإن ما زالت الولايات المتحدة مستورد له رغم إنتاجها الكبير، ولكنها تراجعت خلف الصين، التي تحولت إلى أكبر مستورد عالمي للنفط.
وهذا التحول في الاقتصادين الصيني والأمريكي بداية من 2008، دفع الدول العربية إلى تعميق شراكتها مع بكين في الوقت الذي تراجع فيه الاهتمام الأمريكي بالنفط والغاز العربي مع اكتشاف واستغلال النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة.
في هذه اللحظة التاريخية استلمت الصين مشعل الريادة في الشراكة التجارية مع العرب من الولايات المتحدة.
واستغلت الصين السياسة الأمريكية المتشددة مع الدول العربية في عدة ميادين، على غرار التعاون العسكري ونقل التكنولوجيا، الذين شكلا ثغرات نفذت منها بكين إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، دون إثارة قضايا حقوق الإنسان أو شروط تمس سيادة هذه الدول.
وامتلاك الصين فوائض مالية ضخمة، ساعدها على استثمار مليارات الدولار في الوطن العربي خاصة في البنية التحتية، وتقديم قروض ومنح للحكومات العربية، التي ضاق بعضها ذرعا من الهيمنة الأمريكية والغربية، والضغوط التي تمارسها عليهم في أكثر من ملف.
والخلاصة أن التجربة الصينية أصبحت ملهمة للعديد من الدول العربية، وكيف تحول بلد يعاني المجاعة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ما يجعل فكرة استنساخ هذه التجربة محل اهتمام العديد من الباحثين العرب.
المصدر: الأناضول