اقتصاد تركيا في "صناديق الانتخابات".. ماذا تقول المؤشرات؟
إسطنبول-اقتصاد تركيا
ودّعت تركيا عام 2022 بأرقام ومؤشرات اقتصادية انقسمت قراءات الباحثين بشأنها، وبينما يرى البعض أنها تشي بـ"الأزمة ستتواصل" رغم كل الوعود ونبرات التفاؤل، يجادل آخرون بأن 2023 سيكون "عام قطف الثمار"، لاعتبارات تتعلق بسياسات الحكومة غير التقليدية، التي تعتبرها "صائبة وتحقق من خلالها ما تريد".
ورغم أن العام الماضي كان "صعبا للغاية" من الناحية الاقتصادية، ينظر إلى عام 2023 على أنه سيكون "الحاسم والأصعب"، كونه سيشهد موعد تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في شهر يونيو، من جهة، وستتبين فيه نتائج ما تمضي فيه الحكومة من خطوات من جهة أخرى.
وإلى جانب ما يطرحه الحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، وفي مقابله أحزاب المعارضة من محددات سياسية داخلية وخارجية من شأنها أن تكون قاعدة تؤسس للاستحقاق المنتظر، تعتبر مؤشرات الاقتصاد الحالية، والمسار الذي تمضي فيه الليرة من أكثر القضايا التي ستحدد اتجاه الناخبين في صناديق الاقتراع.
وعلى مدى الأشهر الاثني عشر الماضية ارتفعت نسب التضخم في البلاد إلى مستويات قياسية، ووصلت الذروة في شهر أكتوبر 2022 عند حد 85.5 بالمئة، فيما سجلت 64.27 بالمئة على أساس سنوي في ديسمبر من العام المذكور، وهو أدنى مستوى منذ 9 أشهر.
علاوة على ذلك، استقرت الليرة التركية مع نهاية العام الماضي عند سعر 18.5 ليرة أمام الدولار الأميركي الواحد، بعدما شهدت سلسلة انخفاضات على خلفية سياسة الرئيس التركي، القائمة على خفض سعر الفائدة، إلى أن توقف المضي فيها في شهر نوفمبر، بعد تثبيت النسبة عند 9 بالمئة.
وما بين هذين المسارين ارتفعت أسعار السلع في الأسواق، وكذلك الأمر بالنسبة لأسعار الواردات مثل النفط والغاز، فضلا عن أسعار الإيجارات والعقارات ومقومات الحياة اليومية من خبز وماء وكهرباء.
وتعد حكومة الرئيس إردوغان بأن التضخم سيبدأ في الانخفاض مع بداية العام، بعدما وصل إلى أعلى مستوياته منذ 1998 العام الماضي. وكان وزير الاقتصاد والمالية، نور الدين نباتي قد ربط ما يحصل في البلاد بأنه انعكاس "للظروف الصعبة في جميع أنحاء العالم"، ووعد بمستقبل "أكثر إشراقا".
"بين عامين"
وفي حين يرى اقتصاديون أن اقتصاد البلاد في 2023 "لن يكون أفضل من العام الماضي، بينما "شهد وسيشهد تحسنا اسميا"، يجادل آخرون بشأن هذه التوقعات، واعتبروا أن "الأرقام تقود إلى خلاف ذلك".
وكان عام 2022 شهد تطبيق النموذج الاقتصادي المبتكر من جانب الحكومة، الذي قام على فكرة غير تقليدية، وهي أن الفائدة هي سبب التضخم، على خلاف النظرية الاقتصادية التي تقول إن معالجة التضخم تتطلب رفع أسعار الفائدة.
وبموجب السياسة غير التقليدية استمر البنك المركزي التركي بتخفيض أسعار الفائدة بشكل متسلسل، بدءا من الحد الأول 19 ووصولا إلى 9 بالمئة، أي فئة "الآحاد"، وهو الوعد الذي كرره إردوغان مرارا.
ويرى الأستاذ الجامعي، الباحث الاقتصادي، مخلص الناظر، أنه يجب التقييم في الوقت الحالي على مؤشرات الاقتصاد الكلي، وأنها "سلبية"، إذ يوجد عجز في الحساب الجاري وتضخم هو الأكبر بين دول العشرين والسادس على العالم، فضلا عن عجز في الموازنة العامة.
ويقول الناظر في حديث لموقع "الحرة" إن المؤشرات التي من المفترض أن تتحسن عند خفض الفائدة، لتشجيع عمليات الإقراض، وبالتالي خفض البطالة وتحسين مؤشرات القطاع الصناعي لم تتحقق.
"البطالة والتضخم تحسنهما طفيف، وهو مؤشر على ركود تضخمي، بينما شهدت مؤشرات القطاع الصناعي انخفاضا في 2022 قياسا بالأعوام السابقة".
ويضيف الباحث الاقتصادي أن الشيء الوحيد الذي تطور في 2022 هو الصادرات فقط، ومع ذلك قابلتها زيادة قياسية في الواردات، بسبب انخفاض الليرة وارتفاع أسعار السلع عالميا وارتفاع أسعار الطاقة، و"بالتالي ظل العجز في الميزان التجاري مستمر وانعكس على الحساب الجاري ونظام المدفوعات".
في المقابل، يقرأ يوسف كاتب أوغلو، الخبير الاقتصادي التركي، عضو جمعية رجال الأعمال الأتراك المشهد الاقتصادي في البلاد، من وجهة نظر مغايرة.
ويقول كاتب أوغلو لموقع "الحرة": "الاقتصاد التركي دخل مرحلة التعافي بشكل واضح وفقا لسلسلة من المؤشرات"، بينها أنه ومع نهاية عام 2022 تم "كبح جماح التضخم، والمحافظة على قوة الليرة من خلال الودائع المحمية في البنوك".
ونظام الودائع "كان رادعا لمنع استمرار انخفاض الليرة أمام الدولار".
وتحدث الخبير الاقتصادي عن مؤشرات أخرى "ساهمت في تقليل التضخم، هي قيام الحكومة بتخفيض الفائدة، مما انعكس بشكل إيجابي على تخفيض تكلفة الاقتراض من البنوك، لتستخدم في مشروعات تنموية وإنتاجية".
وأثرت المشروعات بشكل إيجابي على الصادرات، إذ ارتفعت بنسبة 13 بالمئة ووصلت إلى 254 مليار دولار، بمتوسط شهري 21 مليار دولار من أصل 3 مليار دولار في عام 2002، أي سبع أضعاف الزيادة على أساس شهري، و7 أضعاف على أساس سنوي.
ويتابع كاتب أوغلو: "تحطيم الرقم القياسي المذكور كان له تأثير إيجابي على دعم المخزون من الاحتياطي النقدي للعملات الأجنبية، ليرتفع الرقم إلى مستويات قياسية تقارب 130 مليار دولار حاليا، بينما ارتفع مخزون الذهب من 505 إلى 606 أطنان، في مؤشر لم يتحقق "على مدى 99 عاما من تأسيس الجمهورية".
"وعود وتشاؤم"
وفي وقت بقيت فيه نبرة التشاؤم قائمة لدى باحثي اقتصاد أتراك، وظلّت أحزاب المعارضة تنتقد المسار الذي تمضي فيه الحكومة التركية، بعدما وصلت مستويات التضخم إلى مستويات قياسية، ركّزت الأخيرة في 2022 على استعراض أرقام النمو التي حققتها البلاد في 2022.
وفي الثاني من شهر يناير من العام الجاري قال إردوغان إن قيمة صادرات البلاد خلال العام المنصرم (2022) بلغت 254.2 مليار دولار، بزيادة بلغت نسبتها 12.9 بالمئة مقارنة مع صادرات العام السابق له 2021.
وأضاف أن الصادرات التركية زادت 7 أضعاف مقارنة مع أرقام العام 2002.
قبل ذلك كشف "المركزي التركي" أن الهدف الرئيسي في 2023 سيكون تعزيز حصة الودائع بالليرة في النظام المصرفي، عبر سياسات تهدف إلى تنويع المدخرات بعيدا من العملات الأجنبية؛ مثل الدولار.
وقال في بيان بشأن سياساته الجديدة لعام 2023 إن "أولويتنا القصوى ستكون توسيع استخدام الليرة التركية، من خلال زيادة حصتها في الودائع المصرفية إلى 60 في المائة خلال النصف الأول من العام، بدلا من نحو 35 في المائة عام 2022".
ويرى الباحث الاقتصادي، مخلص الناظر، أن النمو الحاصل في الناتج المحلي الإجمالي "يأتي من تشجيع الإنفاق الاستهلاكي، من خلال زيادة الرواتب بشكل قياسي، وإعطاء القروض السكنية وقروض السيارات على نحو كبير".
ويضيف: "النمو ليس حقيقا. الحقيقي يأتي من نمو الميزان التجاري والإنفاق الاستثماري، وهذا الذي لم يحصل".
ورغم أن التضخم سجل انخفاضا عن شهر ديسمبر، على أساس سنوي، إلا أن الأمر يتعلق بحسب الناظر بـ"تغير سنة القياس"، موضحا: "في السابق كنا نقيس تطور الأسعار بين 2021 و2022 وكانت الأسعار أقل بنسبة كبيرة، لأن الليرة كانت 8 أو 9 مقابل الدولار".
"اليوم المقارنة بين 2022 و2023، وبالتالي سينخفض التضخم حسب الحسابات الرياضية في أول أربعة أشهر من 43 إلى 45 بالمئة، وسيعاود الارتفاع بسبب ظهور أثر التوسع النقدي الذي حصل، من رفع الأجور 55 بالمئة وزيادة أسعار المواصلات وغير ذلك".
ويتوقع الباحث فيما يتعلق بعجز الحساب الجاري أنه "سيتقلص بسبب انخفاض أسعار السلع عالميا، لكنه سيبقى، إلا في حال صدقت الأقاويل في استخراج كميات من الغاز في البحر الأسود".
من جهته يشير الخبير الاقتصادي، كاتب أوغلو، إلى أن الحكومة تمضي الآن بـ"خطة مدروسة بعناية لستة أشهر مقبلة، حتى الانتخابات"، تتضمن بجزء تخفيض الضرائب على المداخل الأساسية للمواطن، من أهمها الكهرباء والغاز.
كما تمضي الحكومة بدراسة وتنفيذ الاستغناء عن استيراد الطاقة التي تثقل كاهل الميزانية، وتسبب عجزا في الميزان التجاري، والاستعاضة عنها بالطاقة البديلة والمحلية.
وتستورد تركيا سنويا من 40 إلى 50 مليار دولار بالعملة الأجنبية، بترولا وغازا طبيعيا للطاقة. "90 بالمئة يأتي من الاستيراد و10 محليا".
ويوضح كاتب أوغلو: "الآن نصف هذا الرقم سيتم تعويضه من الإنتاج الداخلي. من 20 إلى 25 مليار دولار سيتم توفيرها ولن يتم استيرادها بسبب الإنتاج المحلي، سواء من غاز البحر الأسود الذي سيدخل في مارس المقبل، أو النفط الذي اكتشف في شرق وجنوب شرق تركيا".
ما المتوقع؟
حتى الآن لا يعرف بالتحديد ما ستؤول إليه المؤشرات الاقتصادية خلال العام المقبل، ولاسيما أنها برهن وعود أكدت عليها حكومة إردوغان كثيرا، فيما استبعد باحثون اقتصاديون إيجابيتها، وجادل آخرون في ذلك.
ويتوقع الباحث الاقتصادي الناظر أن "الليرة التركية ستنخفض لعدة أسباب، من بينها أن التضخم سيبقى مرتفعا، بعيدا عن انخفاضه اسميا".
ويقول: "الاقتصاد يكون جيدا عندما يكون معدل الفائدة أعلى من التضخم. حتى لو وصل التضخم إلى نسبة 43 في المئة فإن العائد السلبي سيبقى كبير".
وبالإضافة إلى ذلك فإن النموذج الاقتصادي التركي الذي تسير فيه الحكومة يدور عكس السياسة النقدية العالمية.
ولذلك يوضح الناظر: "كل بنوك العالم، باستثناء اليابان والصين التي تشهد نسب تضخم 2 أو 3 بالمئة، لم تحرك سعر الفائدة، بينما البنوك الكبرى على رأسها الفيدرالي الأميركي خاض معركة ضرورس ضد التضخم في 2022 ورفع الفائدة في أسرع وتيرة له في التاريخ".
ورفع الفيدرالي الأميركي الفائدة بـ75 نقطة أساس أكثر من مرة، وفي آخر مرة بـ50 نقطة أساس، "ونترقب 75 نقطة أساس بين فبراير ومارس المقبلين"، وفق الباحث.
ويضيف: "الأهم من ذلك الفائدة الفيدرالية ستبقى عند الذروة أي 5.25 بالمئة طوال العام، وهذا سينعكس على قوة الدولار، التي تضرب دائما عملة العملات الناشئة مثل تركيا ومصر والهند، لأنها تتأثر بعوائد السندات الأميركية المتوسطة وطويلة الأجل، مما يسفر عن تخارج الدولار من الأسواق الناشئة باتجاه السندات الأميركية التي تصبح جذابة استثماريا".
لكن، وكما توقع إردوغان يرى الخبير الاقتصادي، كاتب أوغلو أن نسب التضخم ستنخفض في تركيا إلى 30 بالمئة في منتصف العام الجديد، وإلى 20 بالمئة مع نهاية العام، وإلى مادون 10 بالمئة في 2024.
ويتوقع أيضا أن "ما تم ذكره من أهداف ليس مبالغا فيها، لأن المؤشرات تشير إلى أن هذه الأرقام قريبة جدا من أن تتحقق، بسبب السياسة الاقتصادية التي تتبعها الحكومة، وهي الاقتصاد الإنتاجي وتخفيض الفائدة والتركيز على الصادرات".
"بنكهة الانتخابات"
وكان عام 2022 انتهى بتصدر إردوغان مرشحا رئاسيا، لتحالفه مع "حزب الحركة القومية"، فيما لم يتمكن خصومه حتى الآن من التوحد خلف منافس، يمكنه كسب ثقة الناخبين الأوسع والبناء على ما كسبوه في الانتخابات المحلية قبل ثلاث سنوات في أكبر مدينتين، إسطنبول وأنقرة.
ويرى مراقبون أن معركة الانتخابات المقبلة ستكون "شرسة" حول الاسم الذي سيمضي بتركيا إلى القرن الثاني للجمهورية.
ويرى الباحث السياسي التركي، هشام جوناي أن "الاقتصاد سيكون له تأثير كبير على الانتخابات المقبلة، ولذلك نرى إردوغان يحاول تخفيف الأزمة على المواطن، من خلال رفع الرواتب ومحاولة رفع نسبة الدعم للمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن".
ومن جانب آخر يقول جوناي لموقع "الحرة": "هناك مشكلة أننا لا نعرف من هو المرشح عن المعارضة في الانتخابات".
ومع ذلك يضيف: "شاهدنا زعيم حزب الشعب الجمهوري كلشدار أوغلو وكيف أتى بفريق مستشارين قوي، منهم أكاديميين أتراك يعيشيون في الغرب، كون الملف (الاقتصاد) سيكون أولوية لأكبر أحزاب المعارضة، في حال استلم حكم البلاد، ولجذب ثقة الناخبين".
واعتبر الخبير الاقتصادي، يوسف كاتب أوغلو أن "نتائج سياسة الحكومة الاقتصادية والمؤشرات الإيجابية ستصب في صالح الانتخابات، لأن العام الحالي هو قرن تركيا الجديد وعام قطف الثمار".
ويتوقع كاتب أوغلو أن تجري الانتخابات في الرابع عشر من شهر مايو من هذا العام، أي قبل شهر من موعدها المقرر في يونيو، "من أجل ضمان عدم ذهاب الناخبين إلى سفرهم وعطلهم".
من جانبه يشير الباحث مخلص الناظر إلى أن معدل الفائدة سيبقى عند حد نسبة 9 بالمئة، حتى موعد الانتخابات.
ويقول إن "من سيربح بعدها مضطر لرفعها، لأن حجم الاختلالات التي حصلت في الاقتصاد التركي يستحيل أن يتم السير فيها بهذه الطريقة، من دون إعادة التوازن للسياسة النقدية، وأن تعاد استقلالية المصرف المركزي، بعيدا عن التأثير السياسي، الذي تسبب بهروب الاستثمار الأجنبي".
المصدر: الحرة