الاقتصاد التركي وتكافؤ اليورو دولار
إسطنبول-اقتصاد تركيا
شهد سعر صرف اليورو هبوطًا قياسيًّا ليوازي الدولار أخيرًا؛ وبذلك يصبح اليورو مكافئًا تمامًا للدولار وهو أدنى مستوى تاريخي له منذ عام 2002 تقريبًا، وكذلك شوهد اليورو ما دون التكافؤ ليبلغ 0.98 أمام الدولار في بعض اللحظات. وبلغ تكافؤ اليورو دولار ذروته في يوليو/تموز 2008 حيث وصل اليورو إلى 1.58 أمام الدولار، وبعد ذلك أخذ بالتراجع والتعافي، ولكنه لم يقترب من ذروته التاريخية إطلاقًا. وفي بداية 2022 كان اليورو يعادل 1.13 دولار، وبدءًا من 13 يوليو/تموز وصل اليورو إلى 1.002 أمام الدولار؛ وبذلك فقد اليورو نحو 11.3% من قيمته منذ بداية العام الحالي، ليترك ذلك انعكاسات وارتدادات سلبية عديدة ليس على اقتصاد منطقة اليورو فحسب بل على الشركاء التجاريين لمنطقة اليورو كتركيا، لا سيما أن الاقتصاد التركي منكشف بشكل كبير على منطقة اليورو.
وبوجه عام، استفاد الاقتصاد التركي مدة طويلة من قوة اليورو أمام الدولار، ولكن هذه الميزة أصبحت غير متوفرة حاليًّا مع التكافؤ بين زوج اليورو والدولار، بل على العكس مع استمرار تراجع اليورو فإن ذلك سيسبب متاعب جديدة للاقتصاد التركي، وتدهور قيمة اليورو جاء في وقت حساس للاقتصاد التركي الذي يعاني من أزمات وصدمات متعاقبة منذ صدمة الليرة في 2018، إذ يشهد سعر صرف الليرة تراجعًا دراماتيكيًّا منذ ذلك الوقت إلى جانب ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية في البلاد منذ عام 2002، ليأتي تدهور قيمة اليورو ليضيف أعباء وضغوطا جديدة على الاقتصاد التركي بشكل عام وعلى سعر صرف الليرة بشكل خاص، وذلك في ظل السياسات غير التقليدية التي تُصرّ أنقرة عليها، والتي تتمثل في إبقاء معدل الفائدة منخفضًا 14% في ظل استمرار ارتفاع معدلات التضخم إلى 78.6%.
على أي حال، فإن صعود الدولار مقابل اليورو يعني ضغوطًا إضافية على بعض البلدان كتركيا؛ فجزء مهم من إيراداتها الخارجية تكون باليورو أما الالتزامات الخارجية عليها فبالدولار. ولتوضيح المكسب المحتمل أو الخسارة المحتملة من تدهور التكافؤ، يمكننا الاستعانة بالصيغة الآتية: (الصادرات والسياحة والعناصر الأخرى) – (الواردات والدين الخارجي ومدفوعات الفائدة وغير ذلك من الالتزامات الخارجية).
بخصوص تركيا، فإن تدهور تكافؤ اليورو دولار يُعدّ من الأخبار غير السارة بل السيئة، لا سيما في ظل توقعات استمرار ارتفاع مؤشر الدولار مما يُضعف اليورو أمام الدولار، وذلك فيما يتعلق بالتجارة الخارجية في المقام الأول. ووفقًا لبيانات معهد الإحصاء التركي (Tüik)، فقد بلغت عائدات الصادرات نحو 102.4 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي؛ حيث بلغ وزن النسبي الدولار نحو 48% أما لليورو فنحو 46% من عائدات التصدير، وبذلك فإن الوزن النسبي للعملتين متعادل إلى حد ما والنسبة المتبقية بعملات أخرى من ضمنها 3% بالليرة التركية. في مقابل ذلك، بلغت فاتورة الواردات نحو 145.6 مليار دولار؛ حيث تدفع تركيا حوالي 71% من هذه الفاتورة بالدولار و24% باليورو و4% بالليرة التركية والنسبة المتبقية بعملات أخرى تراجعت أمام الدولار أيضًا.
وللحفاظ على الأسواق التي تدفع باليورو، فإن تراجع قيمة اليورو يجعل الصادرات التركية أرخص، وذلك قد يجعل المصدّرين الأتراك مُضطرين إلى الإغراق نتيجة تدهور شروط التبادل التجاري مع هذه الأسواق، في حين يعتمد الاقتصاد التركي على المدخلات المستوردة بنحو 83% من الواردات وعلى رأسها الطاقة، ويهيمن على فاتورة الواردات الدفع بعملة الدولار، حيث ارتفعت فاتورة واردات الطاقة إلى 39.5 مليار دولار في الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي بسبب ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية وتآكل قيمة الليرة. ومن الجدير ذكره أن عجز الحساب الجاري قد بلغ نحو 28.1 مليار دولار وهو ما يوضح مدى تأثير فاتورة الطاقة بشكل أفضل.
من جانب آخر، تعدّ السياحة مصدرا أساسيا للعملة الصعبة في البلاد ومتوقع أن تبلغ عائداتها بين 25 إلى 30 مليار دولار هذا العام، ونحو 70% من عائدات السياحة باليورو نظرًا لقدوم الجزء الأكبر من السياح من منطقة اليورو، لا سيما من ألمانيا. لذلك، فإن القطاع السياحي سيعاني من تراجع قيمة اليورو، ومن ثم فإن تراجع اليورو يعني تراجع عائدات شركات السياحة التركية في الصفقات المقومة باليورو حيث إنها ستكون أقل من المتوقع بالليرات. ولتعويض ذلك، فإن الشركات بحاجة لجذب مزيد من السياح عن طريق الأسعار المخفضة وذلك على غرار ما يقوم به المصدّرون.
كذلك فإن تراجع قيمة اليورو يؤثر على رصيد الدين الخارجي الذي بلغ نحو 451 مليار دولار في نهاية الربع الأول 2022، على النحو الآتي: نحو 132 مليار دولار دين قصير الأجل و319 مليار دولار دين طويل الأجل. وحسب بيانات وزارة الخزانة والمالية، فإن نحو 26% من الدين القصير الأجل باليورو ونحو 44.3% بالدولار، أما الالتزامات بالدولار فتمثل حوالي 64.2% في الدين الطويل الأجل و30% باليورو والنسب الباقية بعملات أخرى. وعمومًا، فإن نحو 58.4% من إجمالي الدين بعملة الدولار مقابل 29% باليورو.
محليًّا، تآكل قيمة الليرة وارتفاع معدل التضخم أدى إلى زيادة معدلات الدولرة في السنوات الأخيرة، حيث تم تعزيز مكانة الدولار واليورو كملاذات آمنة في ظل استمرار تراجع قيمة الليرة. وتشير البيانات الرسمية إلى أن الأفراد يحتفظون بنحو 149 مليار دولار كودائع في القطاع البنكي؛ نحو 40% منها بعملة اليورو. ومع تراجع قيمة اليورو، تعززت مكانة الدولار كملاذ أكثر أمنًا؛ فالمودعون الذين أودعوا أموالهم باليورو من أجل حفظ قيمتها اتجهوا للتحويل نحو الدولار، ومن ثم فإن التحويل من اليورو إلى الدولار زاد من الضغط على سعر صرف الليرة؛ لذلك فقدت الليرة نحو 6.1% من قيمتها من بداية يوليو/تموز الحالي، لتصل حاليًّا إلى مستوى 17.73 ليرة لكل دولار من مستوى 16.71 ليرة في بداية الشهر.
أخيرًا، يتضح أنه عندما يكون اليورو أقوى من الدولار فإن تركيا تستفيد استفادة أكبر، ولكن عندما يحدث العكس فإن تركيا لا تستفيد من تكافؤ اليورو دولار، بل تخسر الجزء الذي كانت تكسبه بسبب قوة اليورو. ومع استمرار تدهور تكافؤ اليورو دولار، فإن تركيا تخسر أكثر، وذلك لأن الإيرادات الخارجية تكون حصة اليورو فيها أكبر أما الالتزامات الخارجية فتكون حصة الدولار فيها أكبر، ومن ثم فإن تدهور قيمة اليورو يضيف أعباء جديدة إلى الاقتصاد التركي، لا سيما في ظل ارتفاع مؤشر الدولار، وهو ما قد يؤدي إلى تغذية التضخم المرتفع أصلًا في البلاد وزيادة هشاشة الليرة أمام العملات الأجنبية، وخصوصًا في ظل اتجاه الاحتياطي الفدرالي للاستمرار في تشديد سياسته النقدية وسعي العديد من بلدان العالم لمجاراته في ذلك من أجل التغلب على جاذبية الدولار القوية وحماية عملاتها من التقلبات الحادة، في حين تُصرّ أنقرة على الابتعاد عن هذه المجاراة من خلال الاستمرار في تثبيت معدل الفائدة وإبقائه من دون تغيير كما حدث في الجلسة الأخيرة للبنك المركزي.
محمد أبو عليان-باحث اقتصادي
المصدر: الجزيرة نت