الليرة التركية تعود إلى "محطة ديسمبر".. ماذا حصل في 6 أشهر؟

تجاوزت الليرة حاجز 17 مقابل الدولار الامريكي

تجاوزت الليرة حاجز 17 مقابل الدولار الامريكي

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

اسطنبول-اقتصاد تركيا

دخلت الليرة التركية في "محطة جديدة" تشبه إلى حد بعيد تلك التي عايشتها في شهر ديسمبر 2021، فقبل ستة أشهر تراجع سعر صرفها أمام الدولار الأميركي الواحد إلى حد الـ18، فيما تلامس اليوم هذا الرقم بأشواط بسيطة، حيث سجّلت، صباح الأربعاء، سعر 17.16، بحسب موقع "Dovız" التركي، المتخصص المتخصص بمراقبة أسعار الصرف. 

ويأتي التراجع الجديد لليرة حاليا، في ظل بيانات رسمية تشير إلى أن التضخم السنوي في البلاد قفز إلى أعلى مستوياته في 24 عاما، مسجلا 73.5 بالمئة عن شهر مايو، ومدفوعا بتداعيات الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، وغيرها من التداعيات التي تؤثر بالسلب. 

وهذا المستوى التاريخي للتضخم بات المواطنون الأتراك يلامسون تداعياته على "أسعار كل شيء"، بدءا من المواد الغذائية ذات الاستهلاك اليومي، ووصولا إلى المواد الأخرى، كالسيارات، وحتى الوقود الذي تتبدل أسعاره بشكل أسبوعي.

وفي وقت تخطى فيه سعر صرف الليرة حاجز الـ17، الأربعاء، تجاوز سعر غرام الذهب حاجز الـ1000 ليرة تركية، على الرغم من المسار الأفقي لأسعار الذهب في الأسواق العالمية، في ظل توقعات اقتصاديين أن تستمر هذه الدورة من التراجع إلى مستويات قياسية خلال الأيام المقبلة. 

ولا ترى الحكومة التركية أن ما تعيشه البلاد هو "أزمة تضخم"، بل هو "غلاء معيشة"، بحسب ما أشار إليه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان في تصريحات قبل أيام. 

وشدد إردوغان على سياسته المتمثلة بعدم رفع سعر الفائدة، كخطوة لتحقيق "معدلات نمو أكبر في البلاد"، وزيادة الصادرات. 

ما الذي حصل في ديسمبر؟ 

قبل ستة أشهر تدهورت قيمة الليرة التركية إلى "مستويات قياسية"، لتتخطى حاجز الـ18 أمام الدولار الأميركي الواحد، في وقت اتجه فيه البنك المركزي لخفض معدلات الفائدة.

وذلك ما دفع الحكومة التركية لإطلاق "أداة مالية جديدة" تتيح تحقيق نفس مستوى الأرباح المحتملة للمدخرات بالعملات الأجنبية، عبر إبقاء الأصول بالليرة.

وحينها قال إردوغان: "سنوفر بديلا ماليا جديدا لمواطنينا الراغبين بتبديد مخاوفهم الناجمة عن ارتفاع أسعار الصرف. من الآن فصاعدا لن تبقى هناك حاجة لتحويل مواطنينا مدخراتهم من الليرة إلى العملات الأجنبية، خشية ارتفاع أسعار الصرف".

وسرعان ما انعكست كلمات إردوغان بصورة مباشرة على سوق صرف العملات، في ذلك الوقت، ليشهد سعر صرف الليرة انتعاشة، ويهبط إلى حد 11.08 أمام الدولار. 

لكن، ومع بداية العام الجديد، انخفض السعر مجددا ليصل إلى حاجز الـ13، بينما تراوح خلال أشهر مارس وأبريل ومايو بين حد الـ14 والـ14.60.

وقال وزير الخزانة والمالية، نور الدين نباتي في بيان له، في شهر مارس: "الليرة التركية في أدنى مستوياتها، ولا مكان للهبوط بعد، ويمكن للمواطنين الراحة".

لكن ومنذ نهاية شهر مايو، وصولا إلى يونيو، كان هناك مشهدٌ مختلف، حيث تراجع سعر الصرف، متخطيا حاجز الـ16، وصولا إلى المحطة الأخيرة في السادس من يونيو الحالي بسعر 17.16.

وباتت أسعار صرف الليرة الحديث الشاغل في الداخل التركي، في حين يعتبر التضخم من أكبر مشكلات الاقتصاد في البلاد.

وحتى الآن لا يعرف بالتحديد الفوائد التي نتجت عن إطلاق الأداة المالية الأخيرة من جانب الحكومة التركية، بينما تشير الإحصائيات الأخيرة إلى تحقيق مستويات صادرات كبيرة، قياسا بالأشهر السابقة. 

وأعلن وزير التجارة التركي محمد موش، مطلع الأسبوع الحالي ارتفاع صادرات بلاده 15.2 بالمئة في مايو الماضي، مقارنة بالشهر نفسه من العام الفائت، مشددا على "مواصلتهم المسير لتحقيق الهدف الذي حدده الرئيس التركي بجني 250 مليار دولار من الصادرات بحلول نهاية 2022".

"السيناريو يتكرر"

يقول أستاذ الإدارة المالية في جامعة "باشاك شهير"، الدكتور فراس شعبو إن التراجع الجديد في سعر صرف الليرة يرتبط بشكل أساسي بالتصريحات الأخيرة لإردوغان، التي أكد فيها على سياسة عدم رفع سعر الفائدة.

ويضيف شعبو لموقع "الحرة": "هذا الأمر كان له أثر، إضافة إلى تصريحات المسؤولين وبيانات المؤسسات التركية حول معدلات التضخم الجديدة".

"هناك جو سلبي بالعموم ومسلسل ديسمبر يتكرر".

ويشير الدكتور في الاقتصاد إلى أسباب رئيسية أخرى تقف وراء التدهور الجديد، بينها "قيمة الدولار عالميا، والصراع الروسي الأوكراني الذي أثّر سلبا على عملات الدول الناشئة بشكل كبير. على رأسها تركيا".

ويوضح شعبو أن "أسعار الطاقة شكلت عبئا كبيرا على الليرة التركية، لاسيما أن الاقتصاد التركي يعتمد على الغاز الروسي. الجو كله ينعكس بالسلب. والمسلسل يعاد مرة أخرى".

بدوره حدد الصحفي الاقتصادي، سعدي أوزدمير، 3 أسباب وراء التدهور الجديد في قيمة الليرة التركية، وارتفاع معدلات التضخم.

أولى هذه الأسباب هو "الموجة الأولى من الزيادات العالمية في الأسعار الناتجة عن تدهور الميزان التجاري والإنتاج بسبب الوباء".

أما السبب الثاني فيرتبط بتحول "الإرادة السياسية في تركيا إلى سياسة فائدة منخفضة مستقلة عن سعر الصرف والتضخم، على أمل أن يتحقق ميزان الحساب الجاري بشكل دائم، مما يؤدي إلى ارتفاع سعر الصرف والأسعار".

وفضلا عن ذلك، يشير أوزدمير إلى سبب آخر، وهو "الارتفاع القياسي في أسعار الطاقة والغذاء والسلع مع الغزو الروسي لأوكرانيا. ذلك ما ضاعف فاتورة الطاقة التركية".
"الليرة بين نظرتين"

ومنذ عامين يصر إردوغان على مسار خفض سعر الفائدة، في سياسة كانت كفيلة بإقدامه على إقالة أربعة محافظين للبنك المركزي، وأخيرا نائبين للمحافظ الحالي، شهاب قافجي أوغلو.

ولطالما أبدى إردوغان، المؤيد لنمو قوي مدعوم بقروض متدنية الكلفة، معارضته لنسب الفوائد المرتفعة التي يصفها باستمرار بأنها "أصل كل الشرور"، مؤكدا أنها "تشجع التضخم".

لكن، وعلى الطرف المقابل ينظر الشارع التركي، وخاصة المعارض منه إلى تلك السياسة على أن "تحدٍ"، وأنها تعزز عدم بقاء البنك المركزي كمؤسسة مستقلة. وهو أيضا ما يشير إليه اقتصاديون. 

ويعتبر المسار الخاص بالليرة التركية والاقتصاد التركي بالعموم أحد أبرز المرتكزات التي ستحدد مآلات الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمقرر تنظيمها في يونيو 2023.

ولم يبق لهذا الاستحقاق سوى عام واحد، وسط ضبابية تحيط بما ستكون عليه الأشهر الـ12 المقبلة.

وكتب حقان كارا الأكاديمي الاقتصادي، وعضو هيئة تدريس بجامعة بيلكنت، وكبير الاقتصاديين السابق في البنك المركزي التركي عبر "تويتر": "مع أسعار الصرف اليوم، سيكون التضخم الرسمي لمؤشر أسعار المستهلكين في يونيو 82 بالمئة على الأقل".

وأضاف: "إذا لم يتم اتخاذ الإجراءات، فيمكننا رؤية ثلاثة أرقام في الربع الأخير".
في حين قال الأكاديمي الاقتصادي التركي، أتيلا يشيلادا: "يجب أن يتدخل البنك المركزي هذه الليلة، أو قد يحدث ديسمبر 2021 مرة أخرى".

أما سياسيا فقد كتب فيلي أغبابا نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري" عبر "تويتر"، الأربعاء: "200 ليرة تركية (أكبر فئة نقدية متداولة) التي كانت 133 دولارا عند إصدارها لأول مرة، أصبحت الآن 11 دولارا، وإذا استمرت على هذا النحو، فسوف تنخفض إلى أقل من 10 دولارات".

لكن وزير المالية، نور الدين نباتي أشار إلى أن "الرصيد النقدي للخزانة (المؤشر الرئيسي لنتائج الميزانية) سجل فائضا قدره 149.2 مليار ليرة تركية في شهر مايو".

وأضاف بحسب ما نقلت وسائل إعلام تركية الأربعاء: "على وجه الخصوص، نتيجة للأداء الإيجابي في إيرادات الميزانية، بلغ الفائض النقدي في الفترة من يناير إلى مايو 82.4 مليار ليرة تركية".

وتابع نباتي: "هذه النتائج هي مؤشر ملموس على الانضباط المالي الذي نطبقه. سوف نستمر بحزم في الحفاظ على موقفنا الثابت في المالية العامة".

"ستة أسباب" 

في غضون ذلك يرى الخبير ورجل الأعمال التركي، علاء الدين شنكولر أكثر من سبب في ارتفاع التضخم المالي وانخفاض قيمة الليرة مقابل العملات الصعبة منها. 

واستعرض شنكولر هذه الأسباب في حديث لموقع "الحرة"، بقوله إن أولها هو "التأثر من الغلاء المستمر في مواد الأغذية والخام في العالم أجمع، إلى جانب التأثر من ارتفاع أسعار الوقود عالميا". 

وهناك أسباب أخرى مثل "التأثر من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، كون تركيا تجاور البلدين، والتأثر من النتائج السلبية من جائحة كورونا مثل باقي دول العالم".

ويضيف شنكولر: "تركيا مستهدفة أيضا من قبل بعض دول أوروبا والولايات المتحدة بعداوة غير مسماة بشكل غير مباشر"، بحسب وجهة نظره. 

ومع ذلك يشير إلى أن ما يحصل ماليا واقتصاديا في البلاد مرتبط بـ"قرارات الحكومة التركية غير الصائبة، خاصة رئيس الجمهورية في إدارة اقتصاد البلد، مع خروج العالم من أزمة كورونا".

وعلى مدى الأشهر الماضية "تم تغيير رؤساء البنك المركزي ووزراء المالية أكثر من مرة، وذلك أدى إلى عدم الاستقرار في تنفيذ المناهج الاقتصادية المخططة لفترة زمنية مذكورة".

كما أدى ذلك إلى "فقدان ثقة المواطن التركي نحو الحكومة في الخروج من الأزمة المالية"، بحسب الخبير الاقتصادي.

ويتوقع أن "اقتصاد تركيا سوف يستمر في تأثره من الواقع السلبي، لمدة 24 شهرا في الحد الأقصى، ثم يعود مع العالم إلى مساره الطبيعي المعهود".

وقد "يكون التأثر أشد بسبب الانتخابات المقبلة"، وزاد الخبير: "أتمنى ألا يضطر حزب العدالة والتنمية (الحاكم) لدفع ثمن كبير نتيجة الانتخابات حتى لا تضيّع عليه إنجازاته العظيمة منذ 20 عاما".

المصدر: الحرة

×