مقدّمات ضرورية في العلاقة بين الاستبداد والمال

سيف الدين عبد الفتاح-مواقع إلكترونية

سيف الدين عبد الفتاح-مواقع إلكترونية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

يعد مبحث التمجّد مبحثا مبدعا لدى عبد الرحمن الكواكبي، وركنا ركينا في بنية الاستبداد العتيد، شكل المتمجدون شبكة دعم الاستبداد والمستبد من كل طريقٍ اتحدوا في الهدف، واختلفوا في الطلب والصلة والدواعي والدوافع التي دعتهم إلى الركون للذين استبدوا، والذين ظلموا؛ ولم نشر إلى طبقة سلطة الثروة والمال؛ لأن الكواكبي أصر على أن يفرد لأصحاب التمجّد المالي، إن صح التعبير، مبحثا خاصا لخطورة أدوارهم وسلطان مالهم وثرواتهم؛ إن تلك "الطبقة القارونية" المستندة في سلطانها إلى الثروة، وفي استبدادها إلى المال الذي مثلوا رمزا له من يسمون رجال المال والأعمال. يتحالف سلطان القوة وغطرستها مع سلطان الثروة والمال في تحالفٍ غير بريء وتزاوج فاسد، مرتهنا إلى تمكين مؤسسات الفساد وشبكات الاستبداد.

ومداخل المال في تمكين الظاهرة الاستبدادية أمر خطير ومثير؛ والأثر السلبي لذلك أوضح من أن يُنكر أو يُستر؛ وهو، بسلسلة نسبه وامتداد سنده، مفضوح مكشوف "الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: "أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال"؛ فالمال سلطة والثروة قوة وهيمنة واحتكار واستئثار "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم فيضر بالكيانية الجماعية والمجتمعية؛ فالمال أساس وتأسيس إن صلحت أدواره ودورانه نفعا واستثمارا وعمرانا "المال يصحُّ في وصفه أن يُقال: القوة مال، والوقت مال، والعقل مال، والعلم مال، والدِّين مال، والثّبات مال، والجاه مال، والجمال مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال، والشُّهرة مال، والحاصل كلُّ ما يُنتَفَع به في الحياة هو مال".

المال قاعدة لكل عمران إن وضحت وظيفته، ودار دورته في نشاط تتحرّك به الحياة ومعاش 

الناس، فهمت ذلك حينما وقع المال في قاعدة المقاصد العامة الضرورية، فتأخر ترتيبا، ولكنه تقدّم تأسيسا على أن تكون قيمته في جمل منظومة القيم العمرانية استخلافا واستثمارا، وفهمت معنى المال بما يشكّله من بنية تحتية تمثل التأسيس والأساس في البنيان والعمران في بناء الكيان والمحافظة على الإنسان ومدار المعاش، وما يتعلق به من تأمين وأمان "وكلُّ ذلك يُباع ويُشترى؛ أي يستبدل بعضه ببعض، وموازين المعادلة هي: الحاجة والعزّة والوقت والتعب، ومحافظة اليد والفضة والذهب والذمة، وسوقه المجتمعات، وشيخ السوق السلطان... فانظر في سوق يتحكّم فيه مستبدٌّ؛ يأمر زيداً بالبيع، وينهى عمراً عن الشراء، ويغصب بكراً ماله، ويحابي خالداً من مال الناس"؛ فإذا كان هذا هو المال، فإن السيطرة على المال وبالمال ضمن سياقات الاستبداد والطغيان، فإنها تأكل مادة العمران، حتى وإن بانت صورة عمران؛ فالظلم مؤذن بخراب العمران.

تكتمل معادلة المال إذا ما ميزت بين نوعين من المال؛ المال الطيب المحرّك للعمران والمال الخبيث الداعم للظلم والطغيان؛ ".. المال تعتوره الأحكام، فمنه الحلال ومنه الحرام، وهما بيِّنان، ولَنِعْمَ الحاكم فيها الوجدان، فالحلال الطيب ما كان عوض أعيان، أو أجرة أعمال، أو بدل وقت، أو مقابل ضمان. والمال الخبيث الحرام هو ثمن الشّرف، ثمَّ المغصوب، ثمَّ المسروق، ثمَّ المأخوذ إلجاءً ثمَّ المحتال فيه".. ويعتبر اختلال معادلة المال والثروة بمثابة أكل الإنسان أخاه الإنسان "إنَّ النظام الطبيعي في كلِّ الحيوانات حتى في السّمك والهوام، إلا أنثى العنكبوت، إنَّ النوع الواحد منها لا يأكل بعضه بعضاً، والإنسان يأكل الإنسان. ومن غريزة سائر الحيوان أن يلتمس الرّزق من الله؛ أي من مورده الطبيعي، وهذا الإنسان الظّالم نفسه حريصٌ على اختطافه من يد أخيه، بل من فيه، بل كم أكل الإنسان الإنسان! .. عاش الإنسان دهراً طويلاً يتلذّذ بلحم الإنسان ويتلمَّظ بدمائه".

الاستبداد المشؤوم لم يرضَ أن يقتل الإنسان الإنسان ذبحاً ليأكل لحمه أكلاً، كما كان يفعل الهمج الأولون، بل تفنَّن في الظلم، فالمستبدّون يأسرون جماعتهم، ويذبحونهم فصداً بمبضع الظلم، ويمتصون دماء حياتهم بغصب أموالهم، ويقصرون أعمارهم باستخدامهم سخرة في أعمالهم، أو بغصب ثمرات أتعابهم. وهكذا لا فرق بين الأولين والآخرين في نهب الأعمار وإزهاق الأرواح إلا في الشكل".. نعم الاستبداد يرضى بقتل الإنسان أخاه الإنسان، ويأكل لحم أخيه حيّا بلا رحمة؛ يقتله ظلما وطغيانا عسفا وإفقارا؛ ما أبلغ الكواكبي المستبدون يأسرون ويذبحون بمبضع الظلم؛ ويمتصون الدماء ويسخرونهم ويغتصبون ثمرات أتعابهم، إنهم ينهبون الأعمار ويزهقون الأرواح، وكأن بين تسميتهم بالمعدمين وإعدامهم قتلا صلة غير منكورة وهذا كله على سبيل الحقيقة لا المجاز.

وضمن بيان خريطة الظلم وتوزيع المغارم والمغانم على نحو مختل وفاسد، تكون أهمية البحث عن تلك العلاقة المشوهة والمشوشة بين المال الخبيث والسلطان الطاغي "إنَّ بحث الاستبداد والمال بحثٌ قويُّ العلاقة بالظُّلم القائم في فطرة الإنسان. ولهذا؛ رأيت أن لا بأس في الاستطراد لمقدِّمات تتعلَّق نتائجها بالاستبداد السياسي، فمن ذلك... إنَّ البشر المقدَّر مجموعهم بألف وخمسمائة مليون، نصفهم كَلٌّ على النّصف الآخر، ويشكِّل أكثرية هذا النصف الكَلّ نساء المدن. ومن النّساء؟ النّساء هنَّ النّوع الذي عرف مقامه في الطبيعة بأنَّه هو الحافظ لبقاء الجنس، وأنَّه يكفي للألف منه ملقح واحد، وإنَّ باقي الذكور حظهم أن يُساقوا للمخاطر والمشاقّ، أو هم يستحقّون ما يستحقُّه ذكر النحل. وبهذا النظر، اقتسمت النساء مع الذكور أعمال الحياة قسمةً ضيزى.. ثمَّ إنَّ الرِّجال تقاسموا مشاقَّ الحياة قسمةً ظالمةً أيضاً، فإنَّ أهل السياسة والأديان ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يبلغ الخمسة في المائة، يتمتعون بنصف ما يتجمَّد في دم البشر أو زيادة، يُنفقون ذلك في الرَّفه والإسراف، مثال ذلك: أنَّهم يزيِّنون الشوارع بملايين من المصابيح، لمرورهم فيها أحياناً متراوحين بين الملاهي والمواخير، ولا يفكِّرون في ملايين من الفقراء يعيشون في بيوتهم في ظلام.. ثمَّ أهل الصنائع النفيسة والكمالية، والتجار الشَّرهون المحتكرون وأمثال هذه الطبقة ويقدَّرون كذلك بخمسة في المائة، يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصُّنّاع والزُّرّاع".. فلتتأمل خريطة التشوه في عمليات التوزيع الظالمة والشائهة.. وهناك أصنافٌ من النّاس لا يعملون إلا قليلاً، إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب أو الدين، وهؤلاء يُقدَّرون بخمسة عشر في المائة، أو يزيدون على أولئك".

في عبارة مرجعية ومفتاحية، وفي مقولة تفسيرية ضافية، يقول الكواكبي تعليقا على خرائط التشوه التوزيعي "وجرثومة هذه القسمة المتفاوتة المتباعدة الظّالمة هي الاستبداد لا غيره"... "نعم؛ لا يقتضي أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذاك الجاهل النائم في ظلِّ الحائط، ولا ذاك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل، ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت، بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السّافل، فيقرِّبه من منزلته، ويقاربه من منزلته، ويُقاربه في معيشته، ويعينه على الاستقلال في حياته..لا! لا! لا يطلب الفقير معاونة الغني، إنما يرجوه أن لا يظلمه، ولا يلتمس منه الرّحمة، إنما يلتمس العدالة، لا يؤمِّل منه الإنصاف، إنما يسأله أن لا يُميته في ميدان مزاحمة الحياة".

المصدر: العربي الجديد

×