معركة تحرير الليرة: أردوغان في مواجهة المنطق الاقتصادي

خطة أردوغان رغم أنها تسبب حيرة هائلة للاقتصاديين، فإنها تبدو قد حققت بعضًا من أهدافها.

خطة أردوغان رغم أنها تسبب حيرة هائلة للاقتصاديين، فإنها تبدو قد حققت بعضًا من أهدافها.

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

عصام الزيات

استجاب البنك المركزي التركي لقرار الرئيس أردوغان بخفض الفائدة. يريد أردوغان بذلك مجابهة التضخم المتسارع في تركيا. سياسة غير مألوفة للعديد من الاقتصاديين ورجال الأعمال الذين يرون أن حل التضخم هو رفع الفائدة، ما يعني سحب الأموال من أيادي المواطنين وتقصير دورة المال في الاقتصاد. اقتراح رفع الفائدة هو التوجه التقليدي والمعروف في مجابهة التضخم، لكن ما يفعله أردوغان يُعتبر غير المألوف والجديد على عالم المال.

أردوغان مستمر في مساعيه لخفض الفائدة مؤكدًا أن قراراته مبنية على فهمه العميق للاقتصاد وآلية عمله. يشير الرجل بذلك إلى النتائج التي يراها على المدى الطويل. التحدي أنه على المدى القصير، وعلى مدى الوقت الراهن، فإن الأتراك باتوا يصطفون أمام المخابز المدعمة، وأصبحوا يبحثون عن السلع الحكومية الأرخص، بعد أن انهارت قيمة رواتبهم، وارتفعت كافة الأسعار بشكل غير مسبوق.

الاقتصاديون يروّن أنه إذا انخفضت قيمة العملة، فعليك زيادة الفائدة كي تمتص السيولة الزائدة في الأسواق، بالتالي تحافظ على معدلات تضخم معقولة. لكن في تركيا معدل التضخم وصل إلى 48% في فبراير/ شباط 2022، وهو أعلى معدل في البلاد في العشرين عامًا الأخيرة. كما شهد عام 2021 خسارة الليرة التركية 44% من قيمتها. الخسائر المتتالية ترافقها تطمينات عالية المستوى، بعضها من أردوغان شخصيًا، بأن الأزمة مؤقتة، وأن الحكومة التركية قادرة على إنهائها متى أرادت.

التصريحات السابقة يمكن قرآتها بشكل عكسي، فمعناها أن الحكومة قررت بصورة إرادية ألا تُنهي أزمة التضخم. كما أن الحكومة ليست عاجزة عن إنهاء حالة الانهيار التي تلحق بالليرة، وحالة الغلاء التي تأكل رواتب المواطنين، لكن الحكومة بشكل واعٍ اختارت أن تستمر الأزمة ومعها تستمر معاناة المواطن التركي، فلماذا؟

تركيا تحاكي الصين

الرئيس أردوغان يرى جوانب مشرقة للتضخم، منها زيادة الصادرات. يعتقد أردوغان بأن التضخم سيجعل المنتجات التركية مرغوبة في مختلف دول العالم بسبب سعرها الرخيص جراء انهيار الليرة. تلك السياسة شبيهة بسياسة الصين التي تتبعها لإغراق العالم ببضائعها زهيدة الثمن. لكن اختلاف تركيا عن الصين هو أن تركيا تستورد العديد من احتياجاتها الأساسية، والتي يؤدي التضخم إلى زيادة في أسعارها بشكل غير مسبوق. ما سيشُكل عبئًا على مستوري السلع، وفي النهاية يُلقى العبء على كاهل المواطن النهائي.

كما أن تركيا لا تملك اقتصادًا ضخمًا كالصين، ولا عدد سكان هائل يوفر لها عمالة مهولة كالصين. كما أن النموذج الصيني قائم على الحكم بالحديد والنار، والثروة فيه لا توزع على كافة الأطراف، بل تتركز في يد فئة قليلة، ولا يمكن للعمال أن يشتكوا من تدهور أحوالهم، أو صعوبة ظروف عملهم.

كذلك فإن تركيا تعتمد على عمالة مهاجرة، من سوريا وأفغانستان، يمكنهم أن يتركوا البلاد متى أصبحت ظروفهم أصعب. كما أن الصين تستثمر في تدريب أياديها العاملة كي يصبحوا أكثر ابتكارًا وأغزر إنتاجًا، وهو ما لا تفعله تركيا، فالإنتاج التركي تقليدي ويستغرق وقتًا أطول لإنتاج نفس الكمية التي تنتجها الصين من نفس المنتج في وقت أقل.

طبعًا لا بد من الإشارة إلى البُعد الديني الذي يعيد أردوغان الإشارة إليه مرارًا وتكرارًا في أحاديثه. فالإسلام يُحرم الفائدة باعتبارها ربًا مُحرمًا. وأردوغان يؤكد أنه سيحارب تلك الفائدة الربوية، لرفع عبئها عن كاهل المواطنين. فالفائدة في رأيه هي أصل كل شر. كذلك يرى أردوغان أن تقليل معدل الفائدة سيجل البنك مكانًا غير مغر لاستثمار الأموال، فيضطر المواطن لاستثمار أمواله في السوق المحلية، فيؤدي ذلك إلى انتعاش الأسواق.

اقتصاد إنتاجي لا ريعي

أردوغان يرى أن الفائدة المرتفعة على الاقتراض تجعل المستثمر يرفع سعر المنتج النهائي على المواطن، لكن إذا اقترض المواطن بفائدة منخفضة فإن المنتج النهائي لن يزيد سعره بشكل كبير. كما أن وصول الفائدة لـ24% أو 19% من شأنه أن يجعل الاقتصاد التركي اقتصاد ريعي وليس اقتصادًا إنتاجيًا. وهو ما يرفضه أردوغان، ويرى الاقتصاد الريعي اقتصادًا غير حقيقي.  الاقتصاد الحقيقي، أو الاقتصاد القائم على الإنتاج والتصدير، هو ما تعتمد عليه تركيا، ونجح في وضعها ضمن أقوى 20 اقتصادًا في العالم.

 ومن الأسواق التي انتعشت بالفعل جراء خفض سعر الفائدة هي سوق العقار التي توجه إليها الأتراك لحفظ قيمة أموالهم من التضخم بشكل آمن. وبجانب المستمثر المحلي فإن الرجل يرى أن انهيار العملة سيجذب المستثمر الأجنبي على تنفيذ مشاريعه في تركيا لانخفاض التكلفة. ووجود المستثمر المحلي والأجنبي في البلاد سيؤدي إلى زيادة فرص العمل والوظائف.

لكن ما يبدو أنه يفوت أردوغان أن ارتفاع نسبة الفقر المصاحبة للتضخم ستؤدي إلى اضطرابات سياسية قد تطيح به شخصيًا من السلطة. وهو ما بانت بوادره بخروج العديد من التظاهرات الرافضة لسياسات الحكومة الاقتصادية، والمطالبة برفع الحد الأدني للأجور.

وبالطبع يفر المستثمرون الأجانب من البلدان غير المستقرة سياسيًا، لأن احتياجات المستثمر ليست هى رخص العمالة وانخفاض تكاليف الإنتاج فحسب. فكون مؤسسات الدولة التركية قد قوّضت بنسبة كبيرة، وأصبحت توجهات أردوغان، ورغباته، هى المُحرك الأساسي لكل شيء في الدولة، حتى سياستها الاقتصادية، فإن ذلك بالتأكيد لا يمثل عنصرًا جاذبًا للمستمثرين.

المركزي غير مستقل

منذ تأسس البنك المركزي التركي عام 1928، وبدأ ممارسة عمله عام 1932، وتركيا تتبنى سياسة سعر الصرف المثبت. لكن كانت تلك السياسة هي قرار حكومي أيضًا، فالمركزي التركي لم يحقق الاستقلالية عن الحكومية مثلما فعلت غالبية بنوك العالم. لهذا نرى أردوغان يُقيل رؤساء البنك المركزي واحدًا تلو الآخر حين يعارضون الاستجابة، أو يرون تأخير، الخطوة التي يريدها أردوغان.

لكن عام 2001 بدأ المركزي التركي في التوجه إلى نظام سعر الصرف المعوّم، استجابة للتوجه الذي بدأ منذ السبعينيات نحو لَبرلة الاقتصاد التركي، ولبرلة النظام النقدي بالكامل. وفي السعى نحو نظام صرف مرن وحر جرّبت تركيا عدة أنظمة معوّمة جزئيًا، فخفضت الليرة بنسبة 23% ثم 44% من قيمتها عامي 1978 و1979 على التوالي.

كانت تلك الأنظمة المرنة تقوم بمراجعة سعر الصرف بشكل يومي أو أسبوعي، وتثبيت سعر صرف العملة إلى عملة أخرى، مع السماح بقدر محدود من تراجع العملة التركية أمام العملة المختارة بنسبة لا تتعدى 1% من العملة المحددة.

أدى ذلك التعويم إلى استنزاف الاحتياطي التركي من العملات الأجنبية التي كانت تستخدمها في دعم الليرة عند مستوى جيد. وللتغلب على هذا الانهيار حاولت تركيا تبني سياسة تعتمد على التصدير، وفي تلك الخطة يُعد التضخم أمرًا جيدًا، إذ يجعل صادرات البلاد أرخص. مما سيزيد كمية الاحتياطي الأجنبي في خزينة البنك المركزي.

حرب تحرير الليرة

الخطة الأردوغانية، رغم أنها تسبب حيرة هائلة للاقتصاديين، فإنها تبدو قد حققت بعضًا من أهدافها. فبحسب هيئة الإحصاء التركية فقد ارتفعت الصادرات خلال مارس/ آذار 2022 بنسبة 6.5%. وتتوقع الهيئة أن يشهد صيف 2022 ارتفاعًا ملحوظًا في عدد السياح ما من شأنه أن ينعش الاقتصاد التركي، رغم انخفاض السياح الروس والأوكران.

كذلك فإن تركيا تتبنى مجموعة من السياسات المتناغمة الهادفة إلى تحسين قدرتها الإنتاجية. فوفق تقرير ستراتفور فإن تركيا تنتج 70% من احتياجاتها العسكرية، بعد أن كانت تنتج 30% فقط عام 2003، عام تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة.

ما يعني أنه قد يكون للخطة الأردوغانية وجاهتها على المدى المتوسط والبعيد، هذا إن استمر تطبيقها، ولم تؤد الخطة لإسقاط العدالة والتنمية من الحكم بسبب الغضب الشعبي. لكن أردوغان يخوض المعركة بمنطق الحروب، حرب اقتصادية كبرى، قد تكون هي الحرب الضرورية لجلب السلام للعملة التركية، والاستقلال للاقتصاد التركي.

 في الحروب يسقط ضحايا أبرياء، وتخسر جوالات وتنتصر في جوالات، لكن الهدف النهائي هو تحرير سعر صرف الليرة وعدم دعمه بأي نقد أجنبي، خصوصًا الدولار، كي لا يكون لأي دولة سيادة ضمنية، أو قدرة على التأثير المباشر وغير المباشر على الاقتصاد التركي.

لكن فيما يخص العملات الأجنبية تحديدًا فإن الأتراك كرد فعل على انهيار عملتهم قاموا بتحويل مدخراتهم إلى العملة الصعبة، بسبب عدم وجود دافع لإبقائهم عليها بالعملة المحلية التي تتهاوى. عملية التحويل الجمعي تلك أدت إلى زيادة الطلب على العملة الصعبة، ما أدى إلى انهيار الليرة التركية أكثر فأكثر.

لذا فنجاح السياسة الأردوغانية يحتاج إلى عدة عوامل إضافية مثل تقليل فاتورة الواردات قدر الإمكان. والاعتماد بأقصى نسبة ممكنة على الموارد المحلية، واستخدام مستلزمات الإنتاج المحلية. كذلك على الحكومة التركية أن تعمل على الحد من تدفق الأموال الساخنة من الخارج، كي تصل العملة التركية إلي قيمتها الحقيقية بشكل واضح وسريع، ما يساعد المواطن التركي في وضع خططه المالية على قواعد ثابتة. والأهم هو ترشيد اقتراض القطاع الخاص بما يتناسب مع نشاطاته الاقتصادية، كي لا تصبح الفائدة المنخفضة عاملًا جاذبًا للاقتراض غير المجدي.

والأهم أنه على الحكومة التركية أن توفر لمواطنيها فرصًا حقيقية للاستثمار المربح، بدلًا من أن يحاول المواطنون التغلب على انهيار العملة بالمضاربة في البورصة، أو حتى المضاربة على سعر العملة، أو التوجه للعملات المشفرة أو غيرها من الأنشطة التي تحقق ربحًا سريعًا لكنها تضر بالرؤية الاقتصادية التي تريد الدولة التوجه إليها.

المصدر: إضاءات

×