الاقتصاد السياسي لسياسات سعر الصرف في تركيا
إسطنبول-اقتصاد تركيا
شهدت الليرة تدهورا دراماتيكيا في الفترة الماضية وخصوصا خلال نوفمبر/تشرين الثاني، حيث تراجعت إلى مستوى 13.5 بينما كانت في بداية الشهر 9.5 ليرات للدولار، وبذلك فقدت الليرة حوالي 30% من قيمتها في شهر واحد فقط.
إن التدهور المتسارع لليرة أدى لصعوبةٍ في فهم ما يحدث باستخدام الأدوات التقليدية للتحليل الاقتصادي، وهو ما عبرة عنه كبير اقتصاديي معهد التمويل الدولي، روبين بروكس (Robin Brooks) بالقول إن ما حدث لم يكن متوقعا في مليون سنة.
إلى جانب ذلك، فإن التدهور الكبير في قيمة الليرة أثار غضبا وجدلا واسعا في تركيا، وبالرغم من ذلك أكد الرئيس إصراره على المُضي في هذا الطريق وأسماها "حرب الاستقلال الاقتصادي".
باعتقادي أن فهم الاقتصاد السياسي لسعر صرف الليرة سيوضح بشكل كبير إلى جانب التحليل الاقتصادي ما يحدث لليرة حاليا، حيث يمكن القول إن التفاعل بين الاقتصاد والسياسة يُدمج في إطار الاقتصاد السياسي والذي يسهم في تحليل وفهم المجتمعات.
كما أنه أصبح أكثر أهمية في العقود الأخيرة من أجل تحليل واستكشاف سلوك الحكومات بتعديل وتغيير سياسات الاقتصاد الكلي وبشكل خاص حول التواريخ المهمة كالانتخابات.
وتشير الأدبيات الحديثة التي تتناول الاقتصاد السياسي لسياسات سعر الصرف أنه يتم في سياق هيكل النظام السياسي، علاقات التوزيع، اقتصاد الانتخابات، الهيكل المؤسسي للعمالة والأسواق المالية.
بالعودة إلى الليرة نجد أن البنك المركزي دعم قيمة الليرة المُبالغ فيها خلال الفترة من 2002 إلى 2015 بالرغم من تراجعها التدريجي، من خلال الحفاظ على تكلفة الإقراض عند مستويات مرتفعة نسبيا.
في هذه الفترة يبدو أن الظروف الدولية كانت مساعدة للبنك المركزي لاتباع مثل هذه السياسة، ولكن مع تغير الظروف الدولية والهشاشة في المؤشرات الاقتصادية إلى جانب التطورات السياسية بدأت قيمة الليرة في التراجع خلال الفترة 2013-2015.
وخلال الفترة من 2008 إلى 2013 تراجعت قيمة الليرة بحوالي 6.8% في المتوسط سنويا، بينما في 2014 و2015 تراجعت بحوالي 15.1% و24.3% على التوالي. كما يُلاحظ في هذه الفترة بأن البنك المركزي فقدَ القدرة للحفاظ على الفائدة المنخفضة وحماية قيمة الليرة في الوقت نفسه، نظرا لأن نموذج النمو المُتبع كان يعتمد إلى حد كبير على السياسات النقدية والمالية التوسعية.
وكانت الحكومة حينذاك ترى أن زيادة الفائدة تمثل مشكلة أكبر من انخفاض قيمة الليرة. وكما هو معروف أن أردوغان كان يواجه مشكلة مع محافظي المركزي منذ 2013 بسبب الإصرار على فائدة منخفضة كما أنه لم يتنازل عن هذا الطلب باستمرار.
بشكل عام خلال 2002-2015 وحتى برغم الاتجاه الهبوطي لأسعار الفائدة الاسمية، أدت معدلات الفائدة الحقيقية المرتفعة نسبيا إلى جانب الإصلاحات الهيكلية التي قامت بها الحكومة ووفرة السيولة في الأسواق الدولية إلى تدفقات رأسمالية كبيرة نحو تركيا (مثلا في 2006-2008 الاستثمار الأجنبي المباشر بلغ 21.5 مليارا سنويا وهي أعلى قيمة تاريخيا)، مما ساعدها في الحفاظ على قيمة الليرة المبالغة فيها طوال هذه الفترة.
خلال هذه الفترة ساعدت التدفقات الرأسمالية الخارجية على استمرار المحافظة على قيمة الليرة وبالتالي تخفيض معدلات التضخم عن طريق تخفيض تكلفة الواردات الداخلة في الإنتاج، حيث اعتمد المركزي قيمة الليرة كأداة فعالة في مكافحة التضخم (انظر الشكل).
بعد 2013، بدأت الليرة في التدهور بشكل ملحوظ حيث تلاشت الظروف التي كانت تساعدها في المحافظة على الاستقرار النسبي لقيمتها، خصوصا مع إعلان الاحتياطي الفدرالي الأميركي إنهاء سياسة التيسير الكمي والاتجاه لزيادة الفائدة في 2015.
وفي 2016 كانت محاولة الانقلاب الفاشلة والتي زادت من متاعب الليرة بالإضافة لذلك زيادة عدم اليقين مع قُرب الانتخابات والتي عقدت بشكل مبكر في يونيو/حزيران 2018، أيضا شهدت هذه الفترة تدهورا في العلاقة السياسية مع الولايات المتحدة على إثر رفض تركيا الإفراج عن القس برانسون.
هذه التطورات المتسارعة أدت لصدمة أفقدت الليرة 32% من قيمتها في 2018، مما دفع البنك المركزي التركي للتدخل بشكل مباشر وغير مباشر للحفاظ على قيمة الليرة، حيث وصلت الفائدة إلى 24% في الربع الأخير من 2018، وهو أعلى مستوى لها في فترة حكم العدالة والتنمية.
رفع الفائدة إلى هذا المستوى أدى إلى ركود اقتصادي من الربع الرابع 2018 حتى الربع الثاني 2019، حيث انكمش الاقتصاد بحوالي 2.3% في المتوسط خلال هذه الفترة. كما أن الرئيس بدأ بطرح أن "الفائدة سبب والتضخم نتيجة" ومع الضغط السياسي لخفض الفائدة أخذ التضخم اتجاها صعوديا.
هذا التعثر الاقتصادي أسهم في خسارة حزب العدالة والتنمية للبلديات الكبرى خصوصا إسطنبول وأنقرة بعد حكمها لأكثر من 20 عاما بشكل متواصل.
ومنذ 2018 استمرت الليرة في فقدان قيمتها بشكل دراماتيكي، وذلك بسبب انسداد إستراتيجية النمو التي طبقت خلال الفترة 2002-2013 والتي كانت قائمة على السياسات التوسعية نقديا وماليا، بالإضافة إلى التيسير الكمي خلال جائحة "كوفيد-19" للتخفيف من آثار الإغلاق الاقتصادي الكبير بسبب الجائحة.
مع تراجع الليرة لمستوى قياسي في 2020 بدأ وزير المالية براءات البيرق باستخدام تعبير "سعر الصرف التنافسي"، حيث يمكن القول إن البيرق حاول تقديم تفسير للتراجع الحتمي لقيمة الليرة أو لربما يكون نقطة تحول في سياسة سعر الصرف. وبالرغم من ذلك حاول المركزي عدة مرات الدفاع عن الليرة باستخدام الفائدة، وهو ما أدى لعزل 4 محافظين للمركزي منذ 2016.
في 2021، عاد المركزي لتخفيض معدل الفائدة 4% في آخر 3 جلسات لتصل إلى 15%، مما سارع في تدهور الليرة لتفقد 30% في نوفمبر/تشرين الثاني فقط وتصل لمستويات قريبة من 14 ليرة للدولار قبل تدخل المركزي بشكل مباشر في سوق الصرف الأجنبي مرتين في نفس الأسبوع.
أيضا أدى تخفيض الفائدة لارتفاع التضخم إلى 21.3% مع نهاية نوفمبر/تشرين الثاني. وبالرغم من ذلك خرج الرئيس ليؤكد إصراره على مواصلة تخفيض الفائدة. كما استحضر نموذج النمو الصيني والذي يعتمد على سعر الصرف التنافسي وبالتالي الصادرات والتوظيف، وبذلك يمكننا القول إن إدخال سعر الصرف التنافسي أصبح نقطة تحول جوهرية في نظر الحكومة لسعر الصرف.
وتشير الأدبيات إلى أن هناك عدة عوامل لنجاح سعر الصرف التنافسي مثل البناء الهيكلي حيث يكون للصناعات التحويلية دور مهم في ذلك، وعلاقات توزيع الدخل بين مختلف مجموعات المصالح في الاقتصاد، وتفضيلات سياسة سعر الصرف للأحزاب والنظام السياسي، فضلا عن العوامل المؤسسية لأسواق المال والعمل.
ويتضح أن هناك اختلافا كبيرا بين تركيا والصين، كون النموذج الصيني يعتمد على الاستبداد السياسي والمركزية الاقتصادية والتخطيط الشامل وهذا غير متوفر في حالة تركيا، علاوة على البنية المصرفية والاقتصادية المساعدة لهذه السياسة.
ورغم أن التحول نحو سعر الصرف التنافسي بهذه الطريقة خطر وغير سلس وقد يؤدي للتضخم الجامح، فإن الرئيس يُصر على ذلك.
والإجابة عن ذلك تتضح من خلال الرسم البياني حيث إن البطالة تؤثر سلبيا على نسبة التصويت للحزب، وبذلك يمكن تعريف البطالة بأنها المنافس الرئيس لحزب العدالة والتنمية.
يتضح أن التحول في سياسة سعر الصرف مدفوع بالعامل السياسي أكثر من العامل الاقتصادي برغم مخاطر هذا التحول.
محمد أبو عليان-باحث اقتصادي
المصدر: الجزيرة نت