تركيا في مدار جديد

ربيع الحافظ-صورة أرشيفية

ربيع الحافظ-صورة أرشيفية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

استطاعت تركيا خلال أزمة وباء كورونا بلوغ مراتب دولية جديدة سيكون لها الأثر في عالم ما بعد كورونا، منها:

صحياً: أصبحت مصدراً لمعدات الوقاية الطبية من الوباء العالمي والدولة التي تقلع اليها الطائرات من العالم المتقدم لنقل المعدات الواقية التي ستسد عجزها.

سياسياً: مدت جسورها الطبية الى دول أوربا التي تحولت إلى بؤرة للوباء.

صناعياً: أظهرت مصانعها مرونة عالية في التحول من الخطوط الإنتاجية التجارية العادية إلى الخطوط الطبية الطارئة.

اجتماعياً: وفرت لمواطنيها المعدات الطبية الوقائية بزمن قياسي بشكل مجاني.

خيرياً: تكفلت مصانعها الأهلية بتلبية احتياجات الدولة (من المعدات الطبية) بثمن التكلفة.

علمياً: قدرة مؤسساتها العلمية على الدخول في اندماج في مشروع مشترك لتصنيع عقار مضاد للوباء العالمي.

الأهمية الحقيقية لهذه الإنجازات ليست أنها مناسبة لإسداء الإطراء والمديح لتركيا وإنما هي تأتي في ظرف يشرف فيه العالم على تحولين سيعيدان تشكيله الثقافي والاستراتيجي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الأولى وفي دور الدولة الإقليمية في هذا التغيير.

تحولان رئيسيان

كان القرن العشرين في الشرق الأوسط (بشقيه العربي والتركي) قرناً قومياً متأثراً بالمد القومي الذي اجتاح العالم منذ نهايات القرن التاسع عشر وشهد قيام الدولة القومية، في حين جاء القرن الواحد والعشرين اجتماعياً متأثراً بانهيار الدولة القومية ولجوء مجتمعاتها (بدافع الخوف على قيمها الاجتماعية من دون اعتبارات قومية) إلى الدولة الإقليمية القوية الأقرب إلى خصوصياتها الاجتماعية والحضارية والقادرة على تأمين مصالحها وإنقاذها من نظام المليشيات الذي حل محل دولها. بخلاف القرن العشرين الذي تصدرته النخب الفكرية وأحاطته بأسوار ثقافية قومية عالية فإن القرن الواحد والعشرين يتصدره المجتمع المدني الذي يفكر بطريقة النجاة والبحث عن الاستقرار العابرة للحدود السياسية والقومية والنتيجة هي: مجتمع يدار بطريقة (أسفل ـ أعلى) تكون قاعدة التغيير فيه أكبر اتساعاً وأكثر خصوبة وأشد استعداداً للدخول في حلول مع حلفاء يشتركون معه المفاهيم.

التحول الثاني استراتيجي؛ وهو أن القرن العشرين مثل نهاية الدولة الإمبراطورية ومجيء الدولة القومية ثم شهد في أعقاب الحرب الباردة عودة بروز القوى الكبرى وصعود الدولة الحضارية (Civilizational) التي تعرف نفسها بأنها أكثر من مجرد دولة على رقعة ترابها الوطني تتحدث لغة واحدة وتنتمي إلى فئة عرقية معينة وإنما حضارة تتميز عن غيرها. تتبنى الدولة الحضارية عقيدة قومية هجينة (Hybrid National Doctrine*) تجمع بين الخطاب القومي في الداخل والخطاب الحضاري في الخارج وتهدف إلى إيجاد فضاء حيوي إقليمي لها لا عن طريق الاحتلال وإنما من خلال بناء الأواصر الثقافية والحضارية المشتركة مع شعوبه ولغايتين رئيسيتين: إيجاد منافذ مضمونة لاقتصادياتها العملاقة وإيجاد ولاء سياسي إقليمي يحمي أمنها القومي في خضم التنافس الدولي الشديد، في المقابل تستفيد دول الفضاء الحيوي من القدرات الاقتصادية لهذه الدولة ومن مركزها الدولي ومن جودها ضمن كتلة اقتصادية ومالية إقليمية يجعلها أكثر قدرة على الصمود بوجه الهزات العالمية وتحافظ في الوقت ذاته على خصوصياتها.

نماذج للدولة الحضارية في العالم

الصين (في منطقة الشرق الأقصى) أعادت إنتاج نفسها وتعرّف أنموذجها الجديد بأنه اشتراكي بخصائص صينية تلتحم فيه قيم الدولة اللينينية مع القيم الكونفوشكية العابرة للحدود والزمان (كما يحب أن يصفها رئيسها) ضمن رؤية نفوذ حضاري يشمل بحر الصين الجنوبي وتايوان، وتمثل الفلسفة الكونفوشية عنصراً مركزياً في الشخصية الجديدة للصين المنسجمة مع فضائها الحيوي وتشغل فصولاً رئيسية فيما كتب عن التجربة الصينية. وتعرّف روسيا (في منطقة شمال ووسط آسيا) نفسها بأنها دولة حضارية لا شرقية ولا غربية بل "أوراسية" ما يمنحها شرعية نفوذ جديد في الجمهوريات السوفييتية السابقة وفي منطقة القوقاز. من الجائز الاعتقاد إن الهدف الحقيقي من وراء جعل الصين وروسيا (ودول أخرى كالهند) الثقافة الحضارية عاملاً محورياً في إعادة إنتاج أنموذجها هو محاولة استعادة نفوذ امبراطوري مفقود في عصر أصبحت فيه العلاقات الجيوسياسية لا تقوم فقط على الاقتصاد والأمن فقط وإنما هي "مفهوم اجتماعي ثقافي حضاري"** أو أنها تسعى للوقوف أمام التغلغل الأمريكي.

أنموذج مختلف

تركيا أعادت إنتاج نفسها في العقدين الأخيرين فهي عززت خطابها القومي الذي يحفظ جبهتها الداخلية وصاغت خطاباً حضارياً خارجياً ينسجم مع مجتمعات فضائها الحيوي وخاضت ثورة إدارية فاجأت العالم (خلال أزمة وباء الكورونا) بنتائجها وبقدرتها على إدارة أزمات خارج حدودها حيث أخفقت الدول الكبرى، لكن لتركيا ما ليس لدى الصين وروسيا فالانقلاب الاجتماعي في فضائها الحيوي الذي يحدث باتجاهها يجعل من التحامها معه عملية حضارية باتجاهين وليس باتجاه واحد ويحدث على هامشه التعاون الاقتصادي وليس العكس.

ومما ليس لدى الصين وروسيا (وغيرهما) هو انفراد تركيا (كإحدى الدول المرشحة على قائمة الدول الحضارية) دون أي دولة أخرى في العالم بسجل وثائقي لدقائق التعايش المشترك بينها وبين محيطها وعلى مدى خمسة قرون ويشمل نظم الحياة الاجتماعية والإدارية وحقوق الملكية الفردية وهو الإرشيف العثماني الذي ضم 150 مليون وثيقة أعدتها مجتمعات المحيط نفسها ولا تزال تعتبره الجهة التوثيقية العليا في دوائرها القانونية، أي أن علاقة تركيا الجديدة مع فضاءها الحيوي لا تنطلق بالنظريات وإنما بالوقائع.

دخول تركيا لملء الفراغ السياسي والأمني في سوريا (المرشح للامتداد إلى أماكن أخرى في المنطقة) بدافع مصالحها أمنها القومي والمصحوب بإعمارها للمدن السورية المدمرة وإعادة الحياة المدنية وتفعيل القوانين المحلية هو ترجمة للسجل الوثائقي (الإرشيف العثماني) ثم رغبة أهالي باقي المدن بجلب الحماية التركية لمدنهم أي يجعل مفهوم العلاقة بين الدولة الحضارية وبين فضائها الحيوي في مجتمعاتنا (في الشرق الأوسط) يتطابق مع الأمم الأخرى في الهيكل ويختلف في المضمون.

مفارقة بين واقعين

تركيا اقتربت كثيراً من معايير الدولة الحضارية التي توفر محوراً للشرق الأوسط تلتف حوله مجتمعاته بصيغة جديدة مختلفة عما قبل 1918. هناك مفارقة وهي أن القرن العشرين (بشقيه العربي والتركي) كان قرن ثقافة على جميع الصعد الفكرية والتربوية والتأليف والأدب والصحافة ونظّر بعمق للدولة القومية بل استعد لها منذ نهايات القرن التاسع عشر فكانت قوالبها الفكرية جاهزة حين قيام الدولة على الرغم من أن المسار القومي كان وعراً لأنه اصطدم بفطرة للمجتمع كما لم يخفِ ذلك منظروه.

ما قامت به تركيا تجاه محيطها الحيوي العربي وما بادرت إليه مجتمعات المحيط (وليس أنظمته السياسية) تجاهها هو في حقيقة أمره تحقيق لمفهوم المحور الجديد، لكن من اليسير الحكم على القرن الواحد والعشرين (وقد انقضى خمسه) بأنه قرن يخلو (أو يكاد) من العمل الفكري الضروري لبناء الثقافات في مستهل الحقب الجديدة التي تضع الأحداث في قوالبها الصحيحة فيفهم الإنسان (البسيط على وجه التحديد) ما يجري حوله فتتكون هويته ويصبح رصيداً للحقبة الجديدة التي ستكسب الشارع لا أن يكون فتيلاً لمشاريع مناهضة من حيث يدري أو لا يدري. لا يلام هذا الإنسان العربي أو التركي (في ظل غياب المعالم الثقافية الكبرى للأحداث) حين يتساءل عن جدوى تحالف إقليمي بين العرب والأتراك يمكن أن يكلف الأرواح والأموال (في وقت تذكر فيه الدولة التركية شعبها من أنه بات في مرحلة تقتضي التضحيات للدفاع عن مصالح بلدهم) ومن غير المستغرب أن يصبح مثل هذا التحالف هدفاً رخواً لمناوئيه.

في منعطف القرن الواحد والعشرين تنكسف مؤسسات الفكر وراء القرص الكبير للإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي وتطغى مادة الإطراء والإثارة والعواطف على الثقافة وتبقى المكتسبات على الأرض خارج قوالبها الفكرية ما يتناقض لأبجديات الدولة الحضارية التي ستجد نفسها تقف على أرض رخوة رغم ما تبذله وقد تتراجع في النهاية.

الثقافة (المشتركة بين العرب والأتراك) هي صمام الأمان في محور إقليمي قابل للاستمرار في شرق أوسط تبحث مجتمعاته عن استقرارها وازدهارها ومكانتها بين الأمم لتحقيق الاستقرار العالمي، من دون هذه الثقافة يبقى المحور الغض عرضة لهزات ارتدادية فكرية ممنهجة ومدعومة.

محور القرن الواحد والعشرين بحاجة إلى عمل فكري مشترك (عربي ـ تركي) تتحمل تركيا عبأه الأكبر يشترك فيه متخصصون في مجالات الاجتماع السياسي والتاريخ والحضارة من الطرفين ولاستدلال على حجم العمل المطلوب لابد من استحضار حقيقة أن ما قامت به تركيا في عقدين لإصلاح قرن هو أكبر مما قامت به الصين في 40 عام لإصلاح 30 سنة من النظام الشيوعي الذي كتبت عنه مئات الكتب، لكن مهمة تركيا الثقافية على طريق الدولة الحضارية أسهل من مهمة القرن العشرين وأسهل من مهمة الصين وروسيا (وغيرهما) فمهمة هؤلاء هي عنوان يبحث عن واقع (غير موجود) ومهمتها واقع (موجود) يبحث عن عنوان.

المصدر: ترك برس

×