الرأسماليةُ وكورونا وعيد العمال

محمد أحمد بنّيس-مواقع إلكترونية

محمد أحمد بنّيس-مواقع إلكترونية

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

خيمت جائحة كورونا على عيد العمال هذه السنة، واضطر ملايين العمال للبقاء في بيوتهم، مكتفين بمسيرات افتراضية أمام استمرار تدابير الحجْر الصحي في معظم بلدان العالم.

أعادت التبعات الاقتصادية والاجتماعية لكورونا إلى الواجهة أسئلة الرأسمالية ومستقبلها وأدوارها في عالمٍ يكاد يكون من المرجّح أنه لن يكون كما كان قبل الجائحة، فمنذ تفشي الوباء فقد ملايين الناس وظائفهم، وكان لزاما على الحكومات والنخب وتكتلات المال والأعمال التوافق على خريطة طريق ظرفية، يتم بموجبها فرضُ حجْر صحي عام تُوازيـه تدابيرُ احترازية أخرى لحماية الأمن الصحي والسلم الاجتماعي.

بيد أن اتساع رقعة الوباء واستعصاءَ إيجاد لقاح أو دواء له وضعا الجميع أمام حقيقة ساطعة: لا بد من رفع الحجر لإعادة الحياة للاقتصاد العالمي، بعد شهرين من الشلل التام الذي أصاب مختلف مفاصله. وبما أن معدلات انتقال العدوى لم تتراجع بشكل واضح، فستكون لهذا القرار كلفة صحية سيدفعها العمال من صحتهم وحياتهم إن اقتضى الأمر ذلك. وقد لا يجدي نفعا ما قاله الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بشأن ''المرونة'' التي ستطبع إجراءات رفع الحجْر في بلاده، وفي بلدان أخرى بطبيعة الحال.

إنه تعليقٌ، غير معلن طبعا، لحزمة حقوقٍ أساسيةٍ، وفي مقدمتها الحق في الحياة والصحة، بعد أن أصبح مؤكدا أن استمرار تدابير الحجْر الرامية لوقف تفشّي الوباء سيفضي إلى انهيارٍ اقتصاديٍّ مُدوٍّ. ووجد صناع القرار أنفسهم أمام معادلة مستحيلة؛ لم يعد بالإمكان الاستمرار في إغلاق المصانع والشركات والمؤسسات الكبرى التي تغذّي الاقتصاد العالمي، وبات أصحاب الياقات الزرقاء والبيضاء مطالبين بالمجازفة بحياتهم والعودة إلى أعمالهم والتعايش مع الوباء.

هناك سعي حثيث من مواقع السياسة، والإعلام، والاقتصاد العابر للحدود، ومختبرات الأدوية لاستخلاص عائدات كورونـا بالحد من هذه الحقوق التي طالما شكّل عيد العمال مناسبة للتأكيد على مركزيتها في السلم الاجتماعي، في ظل نزوع حكوماتٍ كثيرةٍ نحو تقليص هذه الحقوق بتخفيض كلفة الإنتاج عبر تخفيض الأجور والمعاشات، وتقليص مزايا الرعاية الاجتماعية، والتضييق على الحريات النقابية.

يقع ذلك ضمن سياق الاختلالات الكبرى التي نجمت عن تفكّك المعسكر الاشتراكي، وتراجع الاهتمام بالحقوق الاجتماعية في أولويات الدول وسياساتها، وكأن الأمر يتعلق باستعادة النظام الرأسمالي هذه الحقوق التي حازتها الشغيلة تحت ضغط حركات اليسار المختلفة عشرات السنين.

تكشف كورونا عن بعض هذه الاختلالات، سيما في النظام الصحي، فعلى الرغم من أنه لم ينهر بعد، إلا أنه أثبت عدم فاعليته في مواجهة الجائحة أمام نقص الموارد المادية والبشرية اللازمة، خصوصا في البلدان الفقيرة. وكان لافتا أن تقف بعض الدول التي توسم بالمتقدمة عاجزة عن توفير الكمّامات وأجهزة التنفس الاصطناعي مع ارتفاع أعداد المصابين، هذا في وقتٍ تسجل معاملات تجارة الأسلحة والأنشطة المرتبطة بكرة القدم، على سبيل المثال، مبالغَ خياليةً تكفي لمنازلة الوباء بما يجب من المسؤولية الإنسانية والأخلاقية.

في السياق ذاته، تدفع بلدان كثيرة، اليوم، ثمن عدم اهتمامها الكافي بالبحث العلمي، وبالأخص فيما له صلة بمكافحة الفيروسات والأوبئة. وليس خافيا أن معظم الدول منصرفة عن هذا المجال الذي ظهرت، فجأة، أهميته القصوى في السياسات والبرامج الصحية، إذ لا يُخصص له، في الغالب، ما يكفي من موارد مالية وبشرية للنهوض به، بسبب ضغوط اللوبيات المتحكمة في شركات ومختبرات الأدوية.

ويكاد تعاطي الرأسمالية مع كورونـا لا يختلف عن تعاطيها مع مشكلات اقتصادية وبيئية كثيرة. فهو وإن أقرَّ بها، إلا أنه يحاول تقليص كلفتها بالنسبة لمفاصله الحيوية، حتى لو تطلب الأمر المسَّ بالحقوق الأساسية للعمال. وتلعب ترسانته الإعلامية، هنا، دورا رئيسا في دفع الرأي العام إلى القبول بالتسويف والمماطلة اللذين يطبعان أداء الدول الصناعية في تعاطيها مع المشكلات الكبرى التي تواجهها البشرية وعلى رأسها الاحتباس الحراري مثلا.

يهدد رفع الحجر الصحي حياة ملايين العمال المدعوين لاستئناف أعمالهم. لكن ذلك لا يبدو أنه يُحدث أي فارق بالنسبة للنظام الرأسمالي الذي لا يقبل طورُهُ الراهن المجازفة بخطوة نحو الخلف.

المصدر: العربي الجديد

×