اتحاد أوروبي جديد
تاريخيا، اتسمت مختلف المحطات المفصلية، والخطوات والإنجازات الكبرى في مسيرة بناء منظومة الاتحاد الأوروبي، وتطويرها وتقويتها، بالألم والمكابدة والمعاناة، وتقديم التنازلات المتبادلة، والجدل البناء والناجع. وهذا ما ينسحب على الاتفاق غير المسبوق الذي توصل إليه قادة الدول 27 المكونة للاتحاد يوم 21 يوليو/ تموز الحالي، بعد أربعة أيام من النقاش الطويل والمتشعب والمفاوضات الشاقة والمرافعات المضنية. ويتمحور الاتفاق حول إقرار خطة وصفت بالتاريخية، بمبلغ قيمته 750 مليار يورو للنهوض بالاقتصادات الأوروبية التي تعرّضت لهزة مثيرة للقلق بسبب تداعيات أزمة فيروس كورونا المستجد، وتتضمن الخطة لأول مرة ديوناً مشتركة، من 360 مليار يورو على شكل قروض و390 مليار يورو على شكل مساعدات.
وفي اجتماع مباشر منذ منع التجمعات في شهر مارس/ آذار الماضي، بسبب جائحة كورونا، التقى قادة الاتحاد الأوروبي وجها لوجه في بروكسل، لأول مرة، في قمة استثنائية لتسجيل منعطفٍ أساسيٍّ، ينطوي على دلالة عميقة من مختلف النواحي والمستويات. وكانوا يدركون جيدا أنهم سيخوضون معركة مفاوضات عسيرة ومعقدة ومصيرية بكل المقاييس، بشأن خطة الإنعاش الاقتصادي التي اقترحت آلية فعالة لمساعد الدول الأعضاء في الاتحاد، وخصوصا الدول التي انهارت بشكل دراماتيكي في عز تفشي وباء كوفيد – 19، كإيطاليا وإسبانيا.
كانت هناك خلافات جوهرية بين مؤيدي الخطة التي ينبغي أن تستفيد منها دول الجنوب، وفي مقدمتها إيطاليا وإسبانيا، ويقود هذه الجبهة الثنائي الألماني الفرنسي، والدول الملتزمة بأسس الميزانية الأوروبية، المعروفة باسم الدول "المقتصدة"، وهي بلدان الشمال الأوروبي، وتقودها هولندا، ودعت هذه المجموعة إلى خفض المساعدات، وأيدت منح قروضٍ تعيد الدول تسديدها لاحقا. كما طالبت لقاء أي مبالغ مالية بإصلاحات في الدول المستفيدة منها. غير أن دول الجنوب توجست من هذه المطالب التي رأت فيها سيفا موضوعا على رقابها، خشية أن تضطر إلى الخضوع لخطط تفرضها دول أخرى، مثلما حصل لليونان في أعقاب الأزمة المالية العالمية سنة 2008، ما أرغم سكانها على تقديم تضحياتٍ صعبة. وأبدى رئيس وزراء هولندا، مارك روتي، مدعوما بقادة الدول الاسكندنافية والنمسا وفنلندا، مقاومة شرسة للخطة التي تعد ثمرة توافق بين المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي وصفها بأنها "لحظة الحقيقة والطموح بالنسبة لأوروبا، واللحظة الأكثر أهمية بعد إقرار العمل بالعملة الموحدة اليورو، بموجب معاهدة ماستريخت سنة 1992".
الأساسي في استقراء هذا الإنجاز هو قوة (وسلطة) الإرادة الجماعية التي مكنت قادة أكبر تجمع تجاري عالمي من رسم ملامح جديدة ووضع أسس أكثر صلابة ومرونة، وبلورة استراتيجية مالية واقتصادية قادرة على مجابهة التحديات الكبرى، واحتواء تداعيات الأزمات البنيوية، من قبيل الأزمة الخطيرة التي أحدثتها جائحة كوفيد 19. كما أن هذه الإرادة الجماعية، وعلى الرغم من وجود حساسيات بين شمال القارّة الأوروبية وجنوبها تنم عن وعي تاريخي بضرورة الانخراط في صياغة خريطة جيوسياسية جديدة، بهدف التموقع المريح والجيد في الأسواق العالمية التي تريد الولايات المتحدة والصين، بشكل رئيسي، وروسيا بشكل ثانوي، الاستئثار بها، والتحكّم في مفاصلها الحيوية. وجعل الاقتصادات الأوروبية أكثر تنافسيةً وقدرة على التصدّي للعواصف والهزّات التي قد تنتج بصورة غير متوقعة، كما حدث مع جائحة كوفيد 19 التي كادت، في المراحل الأولى لتفشيها، أن تفضي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي وسحب الثقة من مؤسساته، بسبب انتصار خيارات الإنعزال والوطنيات المنغلقة. وبدا أن شعوب دولٍ، مثل إيطاليا وإسبانيا، شعرت بالغبن واليتم، عندما تركت وحيدةً لتواجه مصيرها، وزاد من فداحة هذا الشعور وتفاقمه تدفق مساعدات طبية من الصين وكوبا وروسيا، ما عزّز لدى قادة كثيرين إمكانية انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، وتغذية النزعات الاستقلالية، وحتى الانفصالية.
وأجمعت التقارير الإخبارية واستنتاجات الخبراء والمحللين على أن رؤساء الدول والحكومات الأوروبية نجحوا، بكيفية باهرة ونادرة، في تجاوز مرحلة أساسية من التردّد والتوجس والخوف نحو أوروبا أكثر فيدرالية، ومتكاملة ومندمجة أكثر فأكثر، بفضل التوافقات والتفاهمات التي فرضت نفسها ضرورة حتمية، للحفاظ على وحدة الاتحاد، والبرهنة على أنه سيظل قوة اقتصادية وجيوسياسية يُحسب لها ألف حساب، على الرغم من توالي سلسلة من الأزمات الصعبة، وخصوصا المرتبطة بانسحاب بريطانيا من هذه المنظومة أواخر يناير/ كانون الثاني 2020.
وبالتوصل إلى هذا الاتفاق التاريخي الذي وُضع له هدف مركزي تحقيق إنعاش شامل وضروري لإصلاح الأنظمة الاقتصادية لدول الاتحاد، وامتصاص الأضرار والخسائر والصدمات التي أفرزتها جائحة كوفيد 19، يظهر جليا أن أهميته ليست في حجم المبالغ المالية الضخمة التي تم إقرارها، وإنما في المبدأ الذي نهض عليه الاتفاق، والذي يرسخ نموذجا صلبا ومتماسكا، لتضامن مالي غير مسبوق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فمن أصل 740 مليار يورو، تقرر منح 390 ملياراً مساعدات للدول الأكثر تضرّرا. ويجسد هذا المبدأ الذي حصل إجماع عليه طفرة تاريخية في مسار البناء الأوروبي، والتي ما كان لها أن تصبح ممكنة، لولا التقارب البراغماتي الذي حصل في مايو/ أيار الماضي، بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، بعد موافقة الأخيرة، بشكل استثنائي، على تخصيص قرض لتمكين الدول التي تأثرت كثيرا بسبب مخلفات وباء كوفيد 19، من النهوض والانتعاش، بفضل التحويلات المالية التي ستستفيد منها. وتأسيسا على ذلك، يمكن اعتبار كل من ألمانيا وفرنسا بمثابة القاعدة، أو الأساس الذي يقف عليه صرح الاتحاد الأوروبي، فقد عكسا موقفهما حالة من التماسك الصلب، والتضامن المتين الذي اهتز بسبب سوء إدارة الأزمة الصحية في بداية تفشيها.
المؤكد في ما تحقق أن القادة الأوروبيين تفاعلوا مع الوضع في الوقت المناسب، وأظهروا أنهم يتحكّمون في مصيرهم، ومستقلون في قراراتهم، كما أنهم أرسلوا حزمة من الرسائل والإشارات الصريحة والواضحة بشأن الإرادة التي يتسلحون بها، للحفاظ على اتحادهم في عالم اختلفت فيه موازين القوى، واستيقظت فيه النزعات الوطنية والقومية الضيقة، ونحت فيه العلاقات الدولية منحى غير أخلاقي، بسبب ممارسات موغلة في الأنانية، وصلت إلى حد القرصنة، وتحويل اتجاه المساعدات الطبية.
عندما عاد رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، إلى بلاده، بعد أن حصل على مساعدة بقيمة 40 ملياراً استقبل بالتصفيق الحار من أعضاء حكومته، وهو الذي قال، بعد انفضاض القمة التاريخية، "إن ما حصل مخطط مارشال حقيقي"، لكنه هذه المرّة مخطط أوروبي بكل ما تعنيه الكلمة، ما يفسر أن دول الاتحاد الأوروبي تحدوها اليوم أكثر من أي وقت مضى، رغبة قوية لمواصلة المسار جماعيا وبشكل مشترك، لأن هذا الاتفاق، وبصرف النظر عن الحيثيات المرتبطة بتطبيق بنوده وإجراءاته على أرض الواقع، فهو عقد مشترك يهم الجميع، ويلزم الدول الأعضاء 30 عاما.
المصدر: عربي بوست