لماذا تخفّض تركيا سعر الليرة؟

اختارت تركيا أن تكون دولة مصدّرة وجاذبة للسياح، على أن تخفض نسبة التضخّم

اختارت تركيا أن تكون دولة مصدّرة وجاذبة للسياح، على أن تخفض نسبة التضخّم

طباعة تكبير الخط تصغير الخط

إسطنبول-اقتصاد تركيا

يتوجّس محللون اقتصاديون من التناقضات في الاقتصاد التركي. وتذهب نظريات إلى القول إن الاقتصاد في حالة انحلال وتشظٍ ناتجين عن ارتفاع الأسعار بنسبة سنوية تقدّر بـ80%، وهو معدّل مرتفع بكل المقاييس. وتضخّم بهذا المستوى ينطوي على تحدٍّ كبير للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتي ما عادت قادرةً على الاستمرار في الإنتاج.

وكذلك، تواجه أسرٌ كثيرة، خصوصا أسر العمّال والموظفين، اختناقاً كبيراً في موازناتها العاجزة، في ظل الغلاء، عن التوفيق بين دخولها والتزاماتها الأساسية. والتضخّم، كما هو معلوم وثابت، يسرق من الفقراء ويعطي الأغنياء، ويزيد من حجم الإيرادات الحكومية ويُنصف المدينين على حساب الدائنين.

حيال هذا التضخّم، تتوقع من السلطة النقدية أن ترفع كلفة الاقتراض والإنفاق، وتكافئ المدّخرين. أما بالنسبة للسياسة المالية، فنتوقع من الحكومة أن تلجأ إلى زيادة الضرائب وتقليص الإنفاق حتى تحدّ من نسب الارتفاع المتسارع في مستوى الأسعار.

ولكن الرئيس أردوغان رفض هذا الحل. ولما بلغت نسبة التضخّم 70% في نهاية شهر يوليو/ تموز من هذا العام، أراد محافظ البنك المركزي التركي أن يرفع أسعار الفوائد، والتي كانت حينها 14%، فأقاله الرئيس، وعيّن مكانه شهاب كافيوغلو الذي أطاع رئيسه، وقام بتخفيض أسعار الفائدة بمقدار مائة نقطة أساس، أو بمقدار 1%، أي خفض سعر الفائدة الأساس من 14% إلى 13%.

تراجع الليرة

ولكن هذا القرار، المُناقض للنظرية الاقتصادية التي يتبعها صندوق النقد والبنك الدولي، لم تعط النتائج المرجوّة، ولقد اتخذ هذا القرار يوم 18 يوليو/ تموز، فأخذت الليرة التركية تتراجع أمام الدولار، وانخفضت حتى بلغت، يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول، ما يقارب 18.6 ليرة تركية لكل دولار مقابل حوالي 15 ليرة تركية للدولار في شهر يوليو/ تموز.

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ارتفع معدّل التضخّم من 70؜ إلى 80% خلال الفترة نفسها. ولذلك، صار الشعب التركي من الطبقتين متوسطة الدخل ودون متوسطة الدخل هو حامل العبء الأكبر لهذه السياسة الاقتصادية.

ولا ينتهي العجب عند هذا الحد. لقد حقق الاقتصاد التركي نموّاً كبيراً عام 2021، بلغ، حسب إحصاءات البنك الدولي، أكثر من 11%. ولكن لمّا حل عام 2022، وبدأت تظهر آثار التضخّم الفعلية على الحركة الاقتصادية، توقع بنك التنمية الأوروبي في شهر مايو/ أيار أن يبلغ النمو نسبة 2% فقط. ولكن البنك نفسه أعاد تقدير هذه النسبة في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول إلى 4.5% بسبب زيادة الانفاق المحلي وارتفاع الصادرات.

والأعجب أن هذا النمو الاقتصادي المحترم قد حصل في وقتٍ ارتفعت نسبة البطالة من 9.8% في أغسطس/ آب إلى 10.1% في نهاية شهر سبتمبر/ أيلول. وعلى الرغم من أن هذا الرقم يبدو مرتفعاً، إلا أنه أقلّ مما كان عليه خلال الفترة 2017-2020، حيث كان 13% أو أكثر أحياناً.

لقد اختارت تركيا أن تكون دولة مصدّرة وجاذبة للسياح، على أن تخفض نسبة التضخّم. ولكن السلطات التركية تقدّم دعماً كبيراً لصادراتها السلعية والخدمية، ما رفع من قيمة العجز في موازنتها بشكل كبير. ولقد ارتفع العجز في شهر سبتمبر/ أيلول 2021 (محسوباً على أساس سنوي) من 23.6 مليار ليرة تركية إلى 78.6 مليار ليرة تركية في سبتمبر/ أيلول من العام الحالي (2022).

 

قرارات صعبة

والسؤال الذي تواجهه تركيا في الوقت الحاضر: ما مدى استمرارية هذا الوضع؟ وهل بإمكان تركيا أن تحافظ على السياسات المالية والنقدية التي تنتهجها السلطتان المالية والنقدية فيها؟ ولا يوجد حل إلا أن تزيد تركيا من حجم الدعم المقدّم، وسياسة تخفيض سعر الفائدة يؤدّي إلى زيادة نسب التضخم، وزيادة الضغوط على الليرة التركية.

جزءٌ كبيراً من هذه القرارات الصعبة والخيارات الأصعب، التي تواجهها تركيا ودول كثيرة، ناتج عن سياسة أميركا في رفع سعر الفائدة على الدولار، ليبقى الدولار سيد العملات في العالم، وعن الحرب الدائرة في أوكرانيا وسياسات الانغلاق والتقوقع الاقتصادية التي تسود في أوروبا في الوقت الحاضر، ما يرفع أسعار النفط والغاز وسلع وخدمات كثيرة في العالم.

وتفيد الأخبار القادمة من الصين والولايات المتحدة بأن اللقاء الذي عقد بين الرئيسين الصيني شي جين بينغ والأميركي جو بايدن قد أدّى إلى اتفاق على فتح باب الحوار، ولكنهما اتفقا أيضاً على المضي في عملية التنافس، وهذا يعني أن أكبر اقتصادين في العالم سيستمرّان في حرب العملات، والحرب التجارية، وحرب التكنولوجيا، خصوصا في مجال سلاسل التزويد والذكاء الاصطناعي والمنصّات المنظمة لحركة العملات الإلكترونية.

والنقطة الثانية أن آخر الأخبار الصادرة عن الصين تشير إلى ارتفاع كبير في عدد ضحايا كوفيد-19 من مرضى وموتى، ما سيدفع الصين إلى التشدّد في حركة الدخول إليها والخروج منها. وهذا إن استمر خلال فصل الشتاء الحالي، فستميل الأسعار إلى الارتفاع في الأسواق العالمية، وسيزيد التراجع الاقتصادي حدة وعمقاً.

وسيكون لهذا الوضع أثر على الاقتصاد الأوروبي، ما يعني أن تركيا ستواجه ضغوطاً اقتصادية متزايدة، شأن كثير من اقتصادات العالم. وقد بدأ هذا يؤثر على المواقف السياسيه للجمهورية التركية، فقد برزت عدة مؤشّرات تؤكّد هذه الحقيقة، والتي ربما لم يكن ليلجأ الرئيس التركي أردوغان إليها، لو كانت الظروف الاقتصادية التي يواجهها أيسر وأكثر سماحة.

لقد أعاد الرئيس أردوغان العلاقات السياسية والدبلوماسية مع إسرائيل، وأعاد فتح السفارتين في أنقرة وتل أبيب. وزار السعودية، واتفق على غض النظر عن الخلافات التي نشأت بينهما بعد حادثة مقتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول. وأعاد النظر في موقفه المتشدّد حيال دخول كل من السويد وفنلندا في عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو)، علماً أنه كان متردّداً في قبول ذلك، في ضوء موقف البلدين المتحفظ على عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. ومعلوم أن العضوية في "الناتو"، وكذلك في الاتحاد الأوروبي، يجب أن تحظى بموافقة كامل الأعضاء، ما يجعل أي صوت مضادّ يساوي حق النقض (الفيتو).

وأخيراً، نفّذ الجيش التركي هجماتٍ شرسة على قوات "حزب العمّال الكردستاني" في سورية، وأجلى أعدادا كبيرة من شباب سورية العاملين في تركيا، بهدف تسجيل نقاط قبيل الانتخابات المقبلة، ومن أجل إيجاد فرص عمل للشباب الأتراك الباحثين عن عمل.

صارت الدول أكثر براغماتية، وتقدّم المصالح على المبادئ، وتركيا ليست استثناء. وهذا العالم الجديد الذي نعيشه يتطاحن على لقمة العيش، وقد فاق عدد سكان الأرض ثمانية مليارات نسمة.

 

المصدر: جواد العناني-العربي الجديد

×