تركيا وأوروبا وشتاء 2022
اسطنبول-اقتصاد تركيا
"كلوز شوت" على شعار الاتحاد السوفياتي السابق، تليه صورة ستالين، واستعراض لمناطق وشخصيات روسية تخدم الفكرة مع صوت لمعلق باللغة الإنجليزية يقول: هذه روسيا، الطعام اللذيذ، النساء الجميلات، التاريخ والحضارة والمشاهير والوقود الرخيص والكهرباء الرخيصة والمواصلات الرخيصة وتعدد الألوان والثقافات.. الشتاء قريب لا تتأخروا.
الإعلان الروسي نجح ولو جزئياً في إثارة الشعوب الأوروبية، فخرجت في عدد من المدن الأوروبية رافضة سياسات حكوماتها تجاه الأسعار وعلى رأسها أسعار الطاقة
روسيا وأوروبا والشتاء الصعب
مقدمة المقال وصف لإعلان لعل أغلب القراء شاهدوه، إعلان استفزت به روسيا الحكومات الغربية التي فرضت عليها عقوبات وامتنعت عن استيراد الغاز والنفط منها، وهو محاولة لإثارة الشعوب الأوروبية على حكوماتها التي باتت تبيع الطاقة حتى غاز التدفئة بأسعار جنونية حتى قبل دخول الشتاء.
ففي الوقت الذي تفرض فيها أميركا وأوروبا عقوبات على روسيا بعد خطيئة غزو أوكرانيا، فإن موسكو ترد على النحو الذي تراه مناسباً، ولعل رد روسيا قد أحدث أثراً في الشهور الأولى قبل أن تتحرك حكومات الاتحاد الأوروبي مجتمعة ومعهم أميركا لإيجاد حل للانفجار الشعبي المحتمل على إثر نقص الطاقة والركود الذي يضرب العالم في ظل ضعف سلاسل التوريد.
ولعل الحديث عن ضعف سلاسل التوريد يظهر إخفاق الإدارة الأوروبية والأميركية، التي تعاني الآن، فبداية من التخطيط للمصادر المطلوبة وإدارة تلك الخطة وتأمين الموّرد والتأكد من توفر بضاعته وتطمينه على استمرارية التعاقد، بالتوازي مع قبول المواد الخام وتوفير صناعات تحويلية تستوعب ذلك الخام وصولاً إلى استهلاك أو بيع المنتج في السوق المحلي، وهو ما يؤكده من وجهة نظري الوضع الحالي والأزمة التي تعيشها أوروبا بعد الحرب الأوكرانية، مع الوضع في الاعتبار الكارثة التي أقدم عليها بوتين رداً على استفزاز الغرب بمحاولة دمج أوكرانيا في حلف الناتو.
على كل فإن الإعلان الروسي نجح ولو جزئياً في إثارة الشعوب الأوروبية، فخرجت مظاهرات في عدد من المدن الأوروبية رافضة سياسات حكوماتها تجاه الأسعار وعلى رأسها أسعار الطاقة، مع العلم أن جل الدول الأوروبية لا تنخرط في سوق الطاقة مباشرة، وإنما القطاع الخاص هو المسؤول عن استيراد وبيع الطاقة، مع ذلك فإن الحكومات بما لديها من نفوذ لها الحق أن تتدخل، سياسياً، لحل مشكلات هذه الشركات وصولاً لرضا المستهلك.
تزامن هذا الغضب الشعبي سواء المعلن بمظاهرات فعلية، أو بالغضب المكبوت مع إغلاق الأنابيب الناقلة للغاز الروسي نورد ستريم-1 بسبب ما قالت شركة غاز بروم الروسية إنه بسبب إصلاحات، قبل العملية التخريبية التي ضربت الخط ومعه نورد ستريم- 2 والتي تبادل الغرب وموسكو الاتهامات بشأنها، وأشارت الأخيرة بأصابع الاتهام لأميركا، بالنتيجة ومع إجراءات التقشف التي فرضتها أوروبا على نفسها ومحاولتها إيجاد بدائل من قطر والجزائر والاحتلال الإسرائيلي والنرويج بالإضافة إلى أميركا، فإن الأسعار جعلت ماكرون يصرخ في وجه كل من أميركا والنرويج ويذكرهما بوهم الصداقة التي بينهما، والمحصلة أن أوروبا تعيش إرهاصات شتاء قارس مع قرارات أوبك بلس تخفيض الإنتاج من ناحية وغلاء المصدر من ناحية أخرى.
يتم توريد الغاز الطبيعي المسال من الجزائر ونيجيريا والولايات المتحدة وقطر كغاز طبيعي مسال، كما تعتمد تركيا على روسيا بشكل كبير في توفير ما يقارب الـ 33.6% من احتياجاتها
تركيا والطاقة ونفس الشتاء
تستورد تركيا الغاز والنفط بما يزيد على 40 مليار دولار سنوياً، إذ يلبي إنتاج النفط المحلي 7% فقط من الطلب، لذلك تستورد ما يقرب من 260 مليون برميل من النفط سنوياً، كما أنها تستهلك ما يزيد على 60 مليار متر مكعب من الغاز، مع طلبات إضافية تقدر بـ 10 مليارات متر مكعب في ظل توسع الدولة في مد المساكن بالولايات الـ 81 بغاز التدفئة والطبخ، مما يعني أن تركيا واحدة من المستوردين المهمين للطاقة لاسيما الغاز في أوروبا، فاستهلاك ما يزيد على 82 مليون مواطن للطاقة، مع صناعات واعدة تحتاج للطاقة، يحمل الحكومة عبء توفيرها للاستمرار في معدلات النمو وكذا تقديم الخدمات.
يتم توريد الغاز الطبيعي المسال من الجزائر ونيجيريا والولايات المتحدة وقطر كغاز طبيعي مسال، كما تعتمد تركيا على روسيا بشكل كبير في توفير ما يقارب 33.6% من احتياجاتها، ثم أذربيجان 21.2%، وأخيراً إيران 17.1%، كموردين مهمين لتوفير حاجة تركيا من الغاز.
الثقة دفعت الرئيس بوتين الذي يسعى جاهداً لجذب حلفاء، أو على الأقل أصدقاء، إلى منح أنقرة ميزة نوعية خلال لقاء جمع بينه والرئيس التركي على هامش قمة سيكا في أستانا
كيف خرجت تركيا من مقصلة شتاء 2022؟
عندما أنظر في شتاء تركيا الآمن، مقارنة بالإجراءات التقشفية التي تتخذها أوروبا وما يتخللها من مخاوف محقة في تأزم الأمور أكثر في ظل الأسعار المضاعفة لشرائها لاحتياجاتها من الطاقة، أتذكر نصيحة مدربي في لعبة الكونغ فو القتالية قبل كل مسابقة "لا تجعل خصمك يعلم على أي من القدمين ترتكز" وكأني أرى تلك النصيحة وصلت للرئيس أردوغان ومعاونيه فيعملون بها، في خضم هذا الصراع والتسارع على امتلاك الطاقة، فتركيا عضو حلف "الناتو" حضرت قمة المجتمع السياسي الأوروبي، وسافر رئيسها إلى لفيف بأوكرانيا في رسالة دعم واضحة لرئيسها فولوديمير زيلينسكي، بعد أن زار بوتين في سوتشي الروسية، فلديه اجتماع دوري يجمعه مع بوتين يجدولها مجلس التعاون التركي الروسي، ويشتري من روسيا منظومة الدفاع إس-400 ويراوغ في بيعها مسيرات بيرقدار، ويستورد منها النفط، ويشارك كييف في بناء مصنع للمسيرات على أراضيها.
هذه السياسة واللعب على المتناقضات، مع تقديم يد العون لحل المشكلات والاضطلاع بدور الوسيط لحل الأزمات العالمية، كما حدث في اتفاق إسطنبول لتصدير الحبوب والأسمدة الروسية والأوكرانية، ومحاولات تقريب وجمع الزعيمين المتحاربين في إسطنبول لحل الأزمة، وصفقة تبادل الأسرى منذ أيام التي لعبت فيها تركيا الدور الرئيسي، كل هذا جعلها تكتسب مزيدا من الثقة من طرفي الأزمة، ومن ورائهما، هذه الثقة التي دفعت بوتين الذي يسعى جاهداً لجذب حلفاء، أو على الأقل أصدقاء، منح أنقرة ميزة نوعية خلال لقاء جمع بينه والرئيس التركي على هامش قمة سيكا في أستانا، بأن تصبح تركيا مركزاً لتوصيل الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، مما يعني أن المنصة المقترحة ستسمح بتحديد الأسعار من دون تدخل السياسة.
واقترح الرئيس الروسي أن ينشأ خط أنابيب جديد، بعد التفجيرات التي ضربت خطي نورد ستريم-1و2، مما يعني بالنتيجة أن تركيا ستصبح مصب الغاز الروسي وناقلة له. ومع أهمية هذا الاتفاق وهذه المنصة، فإن تركيا تؤمن غازها ونفطها من إيران وأذربيجان والجزائر ونيجيريا والولايات المتحدة وترينيداد وتوباغو والنرويج، بالإضافة إلى قطر الشريك الموثوق لأنقرة في هذا المجال، كل هذه النجاحات تؤمن شتاء دافئا وصناعة غير متضررة وكهرباء غير منقطعة لتركيا.
ياسر عبد العزيز-الجزيرة نت